صحافة

العراق..حصر السلاح بيد الدولة بين مناورة الفصائل واختبار السيادة

صادق الطائي

المشاركة
العراق..حصر السلاح بيد الدولة بين مناورة الفصائل واختبار السيادة

لم يعد الحديث عن "حصر السلاح بيد الدولة" في العراق، مجرد عبارة مألوفة في الخطاب السياسي، أو شعاراً يتكرر في البيانات الرسمية، بل تحوّل اليوم إلى سؤال مصيري يتعلق بطبيعة الدولة نفسها وحدود سيادتها الفعلية: هل تستطيع الحكومة العراقية أن تستعيد احتكار القوة، كما هو الحال في الدول المستقرة؟ أم أن العراق سيظل دولة متعددة المراكز، تتقاسمها قوى مسلحة تمتلك حضورا عسكريا وسياسيا في آن واحد؟

في الأسابيع الأخيرة بدا المشهد مكثفاً ومشحوناً أكثر من أي وقت مضى: قضاء يتحدث بلغة إيجابية عن "التعاون"، وفصائل تقدّم إشارات انفتاح، لكنها تناور أكثر مما تتنازل، وواشنطن تمارس ضغطا علنيا ومتدرّجا، فيما نتائج الانتخابات الأخيرة منحت تلك القوى وزناً برلمانياً لا يمكن تجاهله. ومن هذه العناصر جميعها تتشكّل ملامح لحظة عراقية حساسة، قد ترسم ملامح الدولة ومسارها لسنوات مقبلة.

بداية التحول الظاهري جاءت عبر إعلان رئيس مجلس القضاء الأعلى فائق زيدان، أن عدداً من قادة الفصائل أبدوا استعدادا للتعاون في ملف "حصر السلاح بيد الدولة"، متحدثا عن انتهاء "الحاجة الوطنية للعمل العسكري" في الداخل العراقي. اللافت لم يكن مضمون الإعلان فحسب، بل اللغة التي صيغ بها، وما تضمنته من شكر وإشادة وإيحاء بالرغبة في فتح باب تهدئة وتفاهم، لا باب صدام مباشر، لكن هذه اللغة، التي بدت داخل العراق محاولة لتهدئة المشهد وتخفيض مستوى التوتر، سرعان ما وُضعت تحت مجهر النقد الخارجي، وتحديدا من واشنطن، التي رأت في هذا الخطاب القضائي تجاوزاً لدور القضاء وتقديما لنوع من الغطاء السياسي غير المباشر لقوى مسلحة لا تزال موضع جدل دولي، وقد وُضع قسم كبير منها وقادتها على لوائح الإرهاب في الولايات المتحدة ودول أخرى. وهنا بدا أن مجرد "إيجابية لغوية" قد تتحول سياسياً إلى معركة تأويلات. الحساسية الأميركية ليست موقفا انفعالياً عابراً، بل جزء من مقاربة ثابتة تتعامل بها واشنطن مع ملف الفصائل المسلحة في العراق. فهناك ضغوط واضحة، سياسية واقتصادية وأمنية، لدفع بغداد نحو تقليص نفوذ هذه القوى، ليس فقط عبر نزع سلاحها، بل عبر منعها من التحول إلى شريك سياسي طبيعي في الحكم من دون شروط.

الرسائل الأميركية بدت حازمة في جوهرها: أي حكومة تمنح مواقع سيادية لقوى مصنفة على قوائم الإرهاب، ستتعرض لتعامل دولي متحفّظ جداً، وقد تواجه صعوبات في الحصول على دعم اقتصادي وعسكري، مع تلويح بإجراءات أوسع قد تشمل تقليص التعاون، أو فرض عزلة سياسية على الوزارات التي تقع تحت نفوذ تلك الفصائل، وصولاً إلى التحذير من خطوات أكثر صرامة إذا لم يتحقق تقدّم ملموس في ضبط السلاح، وتوحيد القرار الأمني بيد الدولة. في المقابل، لم يكن موقف الفصائل موحدا، بعض القوى حاول تقديم خطاب مرن ظاهريا، يتحدث عن "الاستعداد للنقاش" وعن "دعم الدولة" وعن إمكانية الانتقال أكثر إلى العمل السياسي، لكن دون خطة واضحة، أو التزام تنفيذي محدد، وبصيغة أقرب إلى تفاهم مبدئي قابل للتأويل والاستخدام السياسي عند الحاجة.

في المقابل، ظهرت مواقف أكثر صراحة وصلابة لفصائل أخرى، وفي مقدمتها كتائب حزب الله، التي رفضت أي حديث عن تسليم السلاح قبل تحقيق خروج كامل للقوات الأميركية وقوات الناتو والقوات التركية. هذا الرفض لم يكن مجرد موقف تكتيكي، بل جاء ضمن سردية كاملة ترى السلاح "حقاً" و"أمانة" و"ضرورة دفاعية"، لا يمكن التخلي عنها قبل تحقيق ما تصفه بـ"السيادة الكاملة"، وربطت بقاء السلاح بهوية "المقاومة" نفسها، لا باعتباره مجرد أداة أمنية مرحلية تمليها ظروف سياسية مؤقتة. حتى أولئك الذين لم يرفضوا صراحة، لجأوا إلى صيغة خطابية مختلفة، تقول إن السلاح "ضمن إطار الدولة" وليس خارجها، وإنه "منضبط" ويعمل في سياق المصلحة الوطنية. هذا التعريف، في جوهره، يعيد تعريف المشكلة من أساسها: فبدل أن يكون النقاش حول نزع السلاح الموازي، يتحول إلى نقاش حول "صورة الدولة" وطبيعة مؤسساتها، وهل يشمل مفهوم الدولة تشكيلات تمزج بين الطابع العسكري والعقائدي والسياسي؟ بهذا المعنى يصبح "حصر السلاح بيد الدولة" فكرة قابلة للتأويل، وقد يتم تحويل السلاح الموازي إلى "سلاح رسمي" بحكم الارتباط بمؤسسات مثل، هيئة الحشد الشعبي، دون المساس فعليا بجوهر القوة التي تمتلكها هذه الفصائل.

وهنا يتداخل العامل الانتخابي بعمق، فالفصائل لم تعد مجرد تشكيلات عسكرية تعمل في هوامش الدولة، بل أصبحت قوى سياسية تمتلك حضوراً داخل البرلمان، وتؤثر في معادلات تشكيل الحكومة وفي توزيع النفوذ داخل مؤسسات الدولة. هذا الحضور منحها شعورا متزايدا بأنها جزء أصيل من "تركيبة الدولة"، بل إن بعض القراءة السياسية ترى أن هذه القوى باتت تشعر بأنها "هي الدولة" أو على الأقل جزء جوهري منها لا يمكن تجاوزه. وبهذا المنطق تتحول دعوة "حصر السلاح بيد الدولة" بالنسبة لها إلى تأكيد لشرعية سلاحها، بوصفه تابعا لمؤسسة رسمية، وليس مطلبا لنزع السلاح منها كقوة مستقلة.

هذا التشابك بين السياسة والسلاح يضع الحكومة المقبلة أمام معضلة حقيقية: كيف يمكن التعامل مع قوى تمتلك شرعية انتخابية، لكنها تريد الاحتفاظ بقوتها شبه العسكرية في الوقت نفسه؟ وكيف يمكن الاستجابة للضغوط الأميركية والدولية دون تفجير الوضع الداخلي، أو خلق صدام مباشر قد يقود إلى نتائج كارثية؟ رئيس الوزراء محمد شياع السوداني يبدو حتى الآن متجها إلى سياسة حذرة، تقوم على التدرج وامتصاص التوتر: لا مواجهة مباشرة قد تفتح الباب على صراع داخلي واسع، ولا قبول مطلقا يكرّس واقع "الدولة الموازية"، لكنه يظل عمليا بين ضغطين متناقضين، فصائل تمتلك الشارع والسلاح والنفوذ السياسي، وشركاء دوليين يرون أن أي تهاون يعني تثبيت شرعية السلاح خارج احتكار الدولة، لا العكس. ورغم هذا الحراك، يبقى السؤال الأعمق قائما: هل ما يجري تحول حقيقي أم مجرد مناورة تكتيكية لإدارة اللحظة السياسية وتخفيف الضغوط؟ اللغة التي تتحدث عن "التعاون" و"الانتقال إلى السياسة" ما تزال إلى الآن أقرب إلى إعلان نيات منها إلى خطة تنفيذية واضحة. لا توجد جداول زمنية، ولا آليات دقيقة للدمج أو التفكيك، ولا ضمانات واضحة يمكن البناء عليها، فيما تبقى الشكوك قائمة لدى الولايات المتحدة ودول إقليمية معتبرة ترى أن ما يحدث قد يكون محاولة لكسب الوقت وإعادة ترتيب المشهد، دون استعداد فعلي للتخلي عن القوة المسلحة.

الحقيقة أن العراق لا يواجه هنا ملفا إداريا يمكن حله بقرار حكومي، أو حملة تنظيمية عابرة، بل يواجه مشكلة بنيوية عميقة في بنيته السياسية والأمنية. فخلال السنوات الماضية تشكّلت "دولة واقعية" داخل الدولة الرسمية، تمتلك مصادر تمويل وحضوراً سياسياً وأذرعاً عسكرية، وتستند إلى خطاب أيديولوجي يمنحها شرعية معنوية لدى جزء من الشارع. ومع كل استحقاق سياسي جديد، يعود السلاح ليكون عامل ضغط حاسم، لا مجرد تفصيل ثانوي. اليوم، ومع تداخل الضغط الأميركي، والتوازنات الداخلية، ونتائج الانتخابات الأخيرة، يقف العراق عند مفترق طرق حقيقي. إما السير نحو دولة تحتكر السلاح فعلا وتعيد تعريف علاقتها بكل القوى المسلحة، ضمن صيغة واضحة وحصرية، وهو مسار يحتاج قراراً وطنياً شجاعاً وتوافقاً داخلياً وإسناداً خارجياً محسوباً، وإما الاستمرار في إدارة الأزمة بمنطق "التسويات المؤقتة"، التي تهدئ اللحظة ولا تغيّر جوهر الواقع. وفي كلتا الحالتين، الطريق لن يكون قصيرا وله كلفة يجب أن تدفع.

بين منطق الدولة ومنطق السلاح يقف العراق أمام امتحان صعب، ليس على مستوى السياسة فقط، بل على مستوى تعريف السيادة نفسها. الضغوط قد تدفع إلى تنازلات، لكن التنازل الحقيقي يتطلب اعترافاً بأن الدولة لا يمكن أن تُبنى على ازدواجية القوة، ولا على تعدد مصادر القرار العسكري، وحتى يحدث ذلك، سيظل المشهد العراقي معلقا بين خطاب مطمئن يتحدث عن التعاون والسيادة، وحقائق صلبة على الأرض تقول، إن القوة ما تزال موزعة بين أطراف متعددة. وفي انتظار لحظة سياسية وأمنية حاسمة، يبقى السؤال مفتوحاً: لمن سيكون السلاح في النهاية؟ للدولة وحدها؟ أم للدولة والفصائل معا ضمن تعريفات مختلفة ومتناقضة لما يعنيه مفهوم "السيادة"؟

(القدس العربي)
?

برأيك، ما هو العامل الأكثر تأثيرًا في تردي الواقع العربي؟





الإجابة على السؤال

يتم التصفح الآن