قضية تطبيع العلاقات بين المملكة والكيان الصهيوني التي طفت على السطح في الشهور الأخيرة تعكس بوضوح التحوّل الذي شهدته العلاقة المعقّدة بين ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، وإدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن منذ وصوله للبيت الأبيض في مطلع العام 2021. أثناء حملته الانتخابية وعد بايدن بتحويل المملكة إلى دولة "منبوذة" وذلك ردًا على جريمة قتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي في مقرّ القنصلية السعودية في اسطنبول في أكتوبر/تشرين أول 2018. كما ألغى بايدن قرارًا اتّخذه سلفه باعتبار حكومة الحوثيين في اليمن "منظمة إرهابية" بدعوى أنّ ذلك سيمكّن واشنطن بشكل إيجابي في السعي لوقف الحرب اليمنية.
اضطرّ بايدن إلى التراجع عن كل مواقفه الحادة تجاه بن سلمان في ضوء احتياج واشنطن للسعودية
ورغم مرور نحو ثلاث سنوات على تولّيه منصب رئاسة الولايات المتحدة، لم يتمّ دعوة بن سلمان لزيارة البيت الأبيض، وكذلك الحال بالنسبة لرئيس دولة الإمارات العربية المتحدة، محمد بن زايد. بل أنّ المسؤولين في الإدارة الأمريكية الحالية لا يخفون قناعتهم أنّ بن سلمان وبن زايد كانا يدعمان بسخاء حملة منافس بايدن، الرئيس الجمهوري السابق دونالد ترامب، والذي كان له السبق في اتفاقيات التطبيع بين الدول العربية وإسرائيل، المعروفة بالاتفاقيات الإبراهيمية، من دون الالتزام بـ"المبادرة العربية للسلام" التي أعلنت في القمة العربية ببيروت عام 2002، ونصّت صراحةً على ربط الاعتراف بإسرائيل بإنهاء احتلالها للأراضي العربية.
ولكن مع اندلاع الحرب الروسية-الأوكرانية في فبراير، اضطرّ بايدن إلى التراجع عن كل مواقفه الحادة تجاه بن سلمان في ضوء احتياج واشنطن القوي للسعودية من أجل الحفاظ على استقرار أسعار النفط والتطلّع لمساعدتها في محاصرة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
قام بايدن بزيارة المملكة للمشاركة في قمة عربية أمريكية قبل أكثر من عام، حرص خلال تلك الزيارة على عدم مصافحة بن سلمان، واكتفى بملامسة قبضة سريعة معه مبررًا ذلك بالإجراءات الاحترازية في ظلّ وباء كورونا.
خلال ذلك العام قرّر بن سلمان تصعيد المواجهة مع الحليف التاريخي للرياض والضامن الأوّل لأمن المملكة، ثاني أكبر منتج للنفط في العالم، والتأكيد أنّ لدى بلاده بدائل أخرى عديدة لحماية أمنها ومصالحها.
وفي فترة قصيرة، أقام وليّ العهد السعودي علاقات متنامية مع روسيا والصين، كما تجاهل تمامًا مطالب إدارة بايدن بزيادة انتاج النفط كي لا ترتفع أسعاره بالتنسيق مع موسكو.
التنافس المحموم لإنهاء حقبة الدولة العظمى الوحيدة وإقامة نظام دولي جديد متعدد الأقطاب، والخشية الواضحة من نموّ العلاقات بين السعودية والصين، كانا من ضمن العوامل الرئيسية التي دفعت الإدارة الأمريكية لمراجعة وتغيير سياستها مع بن سلمان.
لكن ولأنّ العوامل المحلية والفوز في الانتخابات الأمريكية من ضمن العوامل الأساسية التي تحدّد سياسات الرئيس القابع في البيت الأبيض، فلقد رأى بايدن وإدارته أنّ السعي لتوسيع الاتفاقيات الإبراهيمية بالتوصل لاتفاق للتطبيع بين دولة الاحتلال والمملكة، سيمثّل إنجازًا كبيرًا ووسيلة لتعزيز موقفه في الانتخابات المقبلة في تشرين ثاني 2024.
وبناءً على ذلك القرار بتغيير نهج التعامل مع بن سلمان، تكرّرت زيارات كبار المسؤولين الأمريكيين للمملكة على مدى العام الماضي، لبحث ما قالت التقارير إنه مطالب سعودية غير مسبوقة من واشنطن للموافقة على تطبيع العلاقات مع دولة الاحتلال وتمثّلت في: "المساعدة في تخصيب اليورانيوم من أجل الأغراض السلمية، وشراء أسلحة متقدّمة والتوصّل لاتفاق تتعهّد واشنطن بمقتضاه بتوفير الحماية للمملكة في حالة تعرّضها لأية مخاطر خارجية".
ومقابل مصافحة القبضة في جدّة في تموز 2022، كانت المصافحة حميمية وثلاثية جمعت بين بايدن وبن سلمان ورئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي أثناء حضورهم قمة العشرين التي استضافتها مؤخرًا نيودلهي.
لن ينسى بن سلمان غالبًا الاتهامات الموجعة التي انهالت عليه من الإدارة الديمقراطية
قبل التقرير الأخير لموقع "إيلاف" عن تجميد مفاوضات التطبيع بوساطة أمريكية، أشارت تقارير صحفية أمريكية إلى حرص الرياض على التنسيق مع السلطة الفلسطينية لتحديد الحد الأدنى من المطالب ضمن إطار اتفاق التطبيع بين الرياض وتل أبيب، والتي لم تتضمّن بالضرورة إقامة دولة فلسطينية بشكل فوري، ولكن مجرد تنفيذ ما ورد في اتفاق أوسلو من توسيع مساحة الأراضي التي تسيطر عليها السلطة وكذلك وقف بناء المستعمرات.
في ضوء سياسة العصيان التي رفعها وليّ العهد السعودي في مواجهة الإدارة الأمريكية الحالية، فإنّ السؤال الذي يطرحه الكثير من المراقبين، هو ما إذا كانت المملكة بالفعل قرّرت تجميد مفاوضات التطبيع بسبب تصريحات الوزراء الإرهابيين في حكومة نتنياهو، أم أنّ بن سلمان لا يريد أن يمنح هدية مجانية لبايدن قبل الدخول في عجلة المنافسة الرئاسية مطلع العام المقبل، في وقت يواجه فيه الكثير من المشاكل الداخلية، سواء في ما يتعلق بقدرته الشخصية على شغل المنصب بسبب تقدّم سنّه، أو الاتهامات التي يواجهها نجله، هانتر، بالفساد، وكذلك إعلان الجمهوريين في مجلس النواب أنهم سيبدأون في إجراءات عزله كما فعل الديمقراطيون مع ترامب أثناء فترة رئاسته.
لن ينسى بن سلمان غالبًا الاتهامات الموجعة التي انهالت عليه من الإدارة الديمقراطية الحالية، وحقيقة أنّ الكثير من الدول هي التي تسعى الآن لكسب ودّ الرياض من أجل الحصول على صفقات سخية، بعيدًا عن الولايات المتحدة.
المؤكد أنّ وليّ العهد السعودي سيكون أكثر راحة وسعادة في التعامل مع ترامب، والذي قد تكون أوّل الهدايا التي ستقدّمها له المملكة في حال نجاحه، هي اتفاقية التطبيع.
(خاص "عروبة 22")