في ختام مؤتمر قمة «الدول العشرين» الذي استضافته الهند في عاصمتها نيودلهي، مؤخراً، فاجأ سيرغي لافروف وزير الخارجية الروسي، المراقبين بإعلان أن هذه القمة، وعلى الرغم من غياب الزعيمين الروسي والصيني عنها، لم تستطع فرض الأجندة الغربية، وبالذات ما يتعلق بالطموح الأمريكي للخروج من تلك القمة بقرار يدين «الغزو» الروسي لأوكرانيا، وأن «إعلان نيودلهي» تبنّى «موقفاً متوازناً» من الأزمة الأوكرانية، ما دفع الرئيس الأمريكي، جو بايدن، حسب مقال لصحيفة «كوميرسانت» إلى مغادرة تلك القمة قبل انتهائها.
لافروف لم يكتف بذلك، ولكنه كشف السر وراء هذا «الإنجاز»، من المنظور الروسي، فقبل مغادرته نيودلهي قال إنه «بفضل وحدة (الجنوب العالمي)، بما في ذلك الدولة المضيفة الهند، كان من الممكن منع هيمنة أوكرانيا على القمة»، وأضاف أنه بدلاً من ذلك تم إصدار «إعلان صادق ومتوازن».
ما ورد على لسان لافروف لفت الانتباه بقوة، إلى ظاهرة ما أخذ يعرف بـ«الجنوب العالمي» في الأدبيات السياسية والاقتصادية الدولية، في ظل أدوار متصاعدة ومؤثرة في السياسات والتنظيمات الدولية، وهو مصطلح تجاوز مصطلح «العالم الثالث» الذي ظهر في ظل الصراع بين العالم الأول «الغربي»، والعالم الثاني «الاشتراكي»، طيلة سنوات الحرب الباردة بين واشنطن وموسكو، في ظل نظام القطبية الثنائية، وكانت واجهته تكتل «عدم الانحياز» الذي كانت قضيته هي التحرر الوطني من الاستعمار الغربي، والنأي بالنفس عن صراعات موسكو وواشنطن، وإعطاء الأولوية للقضايا ذات الاهتمام بالنسبة للدول الفقيرة والنامية.
وإذا كان مصطلح «عالم الجنوب» في مواجهة «عالم الشمال» ظهر عقب سقوط نظام القطبية الثنائية، وتفكك الاتحاد السوفييتي، وحلف وارسو، وغياب وجود أي معنى لما كان يسمى بـ«العالم الثاني»، فإنه ظل محاصراً في ظل هيمنة القطبية الأحادية الغربية بزعامتها الأمريكية طيلة سنوات هيمنة هذه القطبية، واكتفى بالاحتماء ضمن عباءة المسمى الجديد له وهو «مجموعة الـ77»، لكنه تحول إلى مسمى «الجنوب العالمي» بفضل ثلاثة تطورات؛ أولها الأفول الذي أخذ يسيطر على النفوذ والمكانة الأمريكيين، وأخذ ينبئ باقتراب نهاية عهد القطبية الأحادية، وثانيها دخول الصين ضمن تكتل «مجموعة الـ77» ومن ثم تبني المسمى البديل وهو «مجموعة الـ77 + الصين»، ونجاح الكثير من الدول أعضاء هذا التكتل في تحقيق تقدم كبير في وزنها الاقتصادي والسياسي العالمي، أمثال: إندونيسيا والهند والبرازيل وجنوب إفريقيا والسلفادور والأرجنتين وماليزيا ونيجيريا والإمارات ومصر والجزائر والسعودية وإيران وتركيا وإثيوبيا، وغيرها.
وثالث هذه التطورات، النجاحات الروسية والصينية في امتلاك قدرات كبيرة متنوعة، اقتصادية وعسكرية وسياسية، مكّنتها من تحدي الزعامة الأمريكية والدعوة إلى تأسيس نظام عالمي بديل متعدد الأقطاب أكثر عدالة، وتأسيس هاتين الدولتين لتكتل اقتصادي – سياسي عالمي مناوئ لـ«مجموعة الدول السبع» هو منظمة «بريكس» بمشاركة دول تنتمى إلى الجنوب أو «الجنوب العالمي»، وبالتحديد الهند والبرازيل وجنوب إفريقيا، ونجاح هذا التكتل الجديد في أمرين، أولهما تحقيق معدلات تقدم متفوقة في مواجهة مجموعة الدول الصناعية السبع، وثانيهما اتخاذ قرار في القمة الأخيرة للمجموعة في جوهانسبرغ، بتوسيع العضوية وضم مجموعة أولى من الدول: الإمارات ومصر والسعودية وإيران وإثيوبيا والأرجنتين.
وبذلك استطاعت مجموعة «بريكس» اختراق «مجموعة الجنوب العالمي» بقوة، وظهرت آثار هذا الاختراق في القمة الأخيرة لمجموعة العشرين في نيودلهي، حيث جاء البيان الختامي لهذه القمة «متوازناً» بالنسبة للقضية الأوكرانية، لكنه تبنى الكثير من مطالب دول «الجنوب العالمي»، وانعكس ذلك في القبول بتأييد عالمي لضم «الاتحاد الإفريقي» الذي يضم 55 دولة إفريقية تنتمى لعالم الجنوب، إلى عضوية «مجموعة العشرين»، جنباً إلى جنب مع الاتحاد الأوروبي.
الظهور القوى لمجموعة «الجنوب العالمي» في قمة الدول العشرين، وقبلها في «قمة بريكس» والقمة الروسية – الإفريقية أخذ يؤشر على وجود فرصة قوية لتشكيل تكتل عالمي قادر على أن يعبّر عن طموحات دول الجنوب، ويتبنّى قضاياها، في ظل الصراع المتصاعد بين القوى العالمية الكبرى، لكن المشكلة الكبرى التي تهدد هذه الفرصة هي تنازع قيادة هذا التكتل بين الصين والهند، الطامحتين لفرض نفسيهما كقوتين عالميتين.
فالصين تطمح إلى قيادة هذا التكتل وحصره داخل دائرة «مجموعة الـ77+ الصين»، والهند أعلنت صراحة عن هذا الطموح على لسان رئيس وزرائها، ناريندرا مودي، قبل انطلاق قمة مجموعة العشرين في نيودلهي، عندما أعلن أن بلاده أصبحت «صوت الجنوب العالمي». هذا التنازع على الزعامة داخل «الجنوب العالمي» من شأنه أن يعرقل مستقبله، وأن يعجّل فرص تفككه، واستقطابه بين القوى الدولية المتصارعة.
("الخليج") الإماراتية