.... في عالم متغيّر

تشهد العلاقات الجزائرية-السعودية، خلال الفترة الأخيرة، حراكًا دبلوماسيًا متناميًا، على أعلى المستويات القيادية والوزارية، بهدف توطيد العلاقات بين البلدين العربيين، المؤثرين في مجريات الشؤون الإقليمية بل والدولية.. والدفع بها نحو التعاون الاستراتيجي، تمهيدًا للشراكة الاستراتيجية الشاملة. 

تعكس التطورات بداية مسار متسارع، لتمتين العلاقات بين البلدين. وهي الدرجة التي يفترض أن ترتقي إليها، نظرا إلى العديد من الاعتبارات الجغرافية والسياسية والاقتصادية، خاصة في ظل التحولات التي يمر بها النظام الدولي؛ التي تقتضي تكثيف التعاون بما يعزز من مكانة الدولتين في تراتبية القوى في الميزانين الإقليمي والدولي.

أولا: الأبعاد الجيوسياسية

تقود المقارنة بين الجزائر والمملكة العربية السعودية إلى العديد من نقاط التشابه، لعل أهمها كبر مساحة الدولتين وما يترتب عليه من تنوع في المناخ والتضاريس والموارد الاقتصادية؛ حيث تعتبران من أهم منتجي ومصدري الطاقة في العالم، وإن كانت السعودية تحتل مرتبة متقدمة بشكل أكبر، خاصة في النفط، الذي تعتبر المملكة ثاني منتج وأول مصدر له عالميا. في المقابل، تتنوع المصادر الجزائرية بين النفط والغاز؛ وهي من أكبر منتجي ومصدري الغاز إذ يقع ترتيبها ضمن العشرة الأوائل في العالم، كما أن قربها الجغرافي من السوق الأوربية يمنحها قيمة مضافة. 

تقع المملكة العربية السعودية والجزائر من الناحية الجيوسياسية في إقليم الشرق الأوسط، بمفهومه الموسع الذي يدرج شمال إفريقيا ضمنه، كما تنتميان إلى الدائرة العربية. وأهم ميزة في الموقع الجغرافي للبلدين، تكمن في تباعد الدوائر الجيوسياسية ذات الأولوية الأمنية الكبرى للدولتين، الذي يقلل من مجالات التنافس، ويعزز من فرص التعاون والتنسيق بينهما. ومن الناحية الجيو-اقتصادية، فإن مشاريع الربط الاقتصادي التي تستهدفها الجزائر تهتم بالعمق الإفريقي، وتحديدا غرب إفريقيا ووسطها، كما أن أوروبا هي سوق الطاقة الأساسية بالنسبة إلى الجزائر وتحديدا الغاز؛ في حين، تهتم السعودية بطرق الربط بين آسيا وأوروبا، سواء عبر مشروع الحزام والطريق الصيني أم طريق الهند- الخليج- أوروبا. وحتى صادراتها النفطية نحو أوروبا لا تؤثر على النفط الجزائري، الذي في كل الأحوال لا يمكنه تغطية السوق الأوربية بمفرده.

ثانيا: تحولات النظام الدولي وفراغ القوة الإقليمية

يمر النظام الدولي بتحولات استراتيجية، تتبعها تطورات على مستوى الأقاليم الفرعية، التي تفرض الكثير من التحديات والفرص في الوقت نفسه على القوى الإقليمية. يعتبر “الفراغ الاستراتيجي” أحد أبرز ملامح هذا التحول؛ حيث يؤدي تراجع القوى الكبرى في بعض مناطق النفوذ مقابل صعود قوى أخرى منافسة إلى فراغ استراتيجي ينجم عنه اضطرابات ومخاطر استراتيجية، تترتب على الصراعات بين القوى المحلية الساعية للتموضع وفق المستجدات على الساحتين الداخلية والخارجية، وبحثها عن دعم وحلفاء من الخارج.

يكون دور القوى الإقليمية مهما جدا في هذه المرحلة، لكون مسارات كل إقليم تتوقف عن سلوك القوة الإقليمية في بيئتها المحيطة. ففي حالة أخذت زمام المبادرة وعملت على ملء الفراغ الاستراتيجي، فإن القوى الدولية المنافسة ستكون مضطرة إلى تعديل أهدافها وفق الواقع الذي تفرضه القوة الإقليمية المحلية التي تمتلك أدواة التأثير السياسية والاقتصادية والاجتماعية في محيطها. أما في حالة انكفائها، فإنها ستجد نفسها جزءا من المشاريع الجيو-سياسية للقوى الدولية الأخرى، التي سيكون تنافسها على النفوذ والهيمنة غالبا عامل زعزعة للأمن والاستقرار في الأقاليم.

تشير الكثير من الدراسات إلى أن مركز القوة في النظام الدولي ينتقل من الغرب إلى الشرق، وبغض النظر عن الاتجاه الذي سيستقر عليه النظام الدولي، فإن الشرق الأوسط بمفهومه الواسع سيبقى غالبا أحد أكثر الأقاليم الفرعية تأثرا وتأثيرا بالصراعات الدولية، لكون جل الطرق التجارية البرية والبحرية تمر عبره جنوبا أو وسطا أو شمالا. وحتى الأقاليم الأخرى، لن تسلم من التداعيات، كما حصل في مختلف الأزمنة، وربما، ما يجري في إفريقيا حاليا من صراعات وأزمات داخلية يغذيها التنافس الدولي على غرار الانقلابات في غرب إفريقيا وتراجع النفوذ الفرنسي وصعود روسيا والصين، يعكسان العلاقة الارتباطية الوطيدة بين النظام الدولي والأنظمة الفرعية.

تأسيسا على ذلك، فإن القوى الإقليمية في المنطقة في حاجة ملحة إلى تنسيق جهودها والتعاون فيما بينها، للاستفادة من هذه المرحلة الانتقالية، بتعزيز المكاسب والحد من الخسائر. 

ثالثا: ملامح السياسة الخارجية الجديدة

الدور الإقليمي: تسابق المملكة العربية السعودية الزمن لتجسيد مستهدفات رؤية 2023؛ التي تقتضي منها توفير كل الظروف المناسبة لتحقيقها، سواء داخليا أم خارجيا. وهو ما انعكس بشكل كبير على سياستها الخارجية، التي وإن كانت معروفة بديناميكيتها المستمرة، إلا أنها في المرحلة الأخيرة ضاعفت من إيقاع أنشطتها بما يتناسب مع طموحاتها وتأثيرها الإقليمي والدولي. والجزائر بدورها، تشهد حركية كبيرة في السنوات الأخيرة، وإن كانت منطلقاتها وسياقاتها مختلفة؛ حيث تسعى لاستدراك الإخفاقات التي مرت بها في العقد الأخير داخليا وخارجيا، وتعمل على تجاوز المرحلة الانتقالية القصيرة التي مرت بها بعد الحراك الشعبي في 2019.

المقاربة السلمية: توصلت المملكة العربية السعودية، خلال شهر مارس 2023، إلى اتفاق مع إيران برعاية صينية، شكّل بالنسبة إلى السعوديين لحظة تحول استراتيجي انتقلت فيها المملكة إلى فاعل يعمل على صنع السلام، وقد ترافق ذلك مع أنشطة عديدة تصب في هذا الاتجاه، لعل أبرزها الجهود الدبلوماسية التي تبذلها المملكة في تسوية بعض النزاعات، كالحرب الروسية الأوكرانية باستضافتها في شهر أغسطس الماضي أربعين دولة لبحث فرص السلام، كما احتضنت جولات عديدة من المفاوضات بين طرفي النزاع في السودان، وللوصول إلى مقاربات لحل الأزمة اليمنية والسورية. يتناغم هذا النهج مع الرؤية الجزائرية الثابتة، التي تركز على الآليات السياسية والدبلوماسية في إدارة النزاع وترفض الأدوات العسكرية، وهو ما قامت به تجاه العديد من الأزمات الدولية والإقليمية، على غرار موقفها من الأزمة الليبية ومن الانقلاب في النيجر. 

استقلالية القرار وتغليب المصالح الوطنية: يظهر ذلك في التنسيق بين السعودية والجزائر وغيرهما من أعضاء (أوبيك +) التي توافقت على خفض إنتاجها من النفط، للمحافظة على الأسعار بما يخدم مصالح الدول المنتجة له، على عكس ما كانت تريده الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها، من زيادة في الإنتاج. وقد كان ذلك مؤشرا عن تحول في السياسة السعودية نحو الموازنة في علاقتها بين القوى الكبرى، والأمر نفسه بالنسبة إلى الجزائر التي تعمل على نسج علاقات مع كل القوى وترفض أن تحسب على طرف دون آخر.

الموثوقية: تحظى المملكة العربية السعودية والجزائر بسمعة كبيرة في المحافل الدولية، حيث تعرفان بالالتزام بتعهداتهما، وعدم نقض الاتفاقيات أو الالتفاف عليها، والوفاء بأي عهود تقطعها. هذه السمعة تتيح للدولتين فرصا كبيرة جدا لقيادة الوساطات في مختلف الأزمات الجارية، التي يمكن أن تنفجر في أي لحظة بسبب التطورات الدولية التي سبق الإشارة إليها.

("الشروق") الجزائرية

يتم التصفح الآن