فى تعريفه لكلمة ثقافة، أو مثقف يقول ابن منظور الافريقي (المتوفى 711هجرية، 1311م) في كتابه لسان العرب: غلام لقن ثقف أي ثابت المعرفة بما يحتاج اليه؛ أي أن من يستحق ان يطلق عليه لفظ المثقف من الضروري أن تكون لديه معرفة ثابتة مستقرة بما يحتاج اليه في زمانه ومكانه؛ سواء ما يحتاج اليه في مجاله الفكري او العملي التطبيقي، أو ما يحتاج مجتمعه اليه، وبذلك يكون المثقف الحقيقي هو الذي وصل الى المعرفة العميقة بالاحتياجات الحقيقية لمجتمعه، وهذه المعرفة يجب أن تكون ثابتة مستقرة، وغير قابلة للتغير والتحول طبقا للمصالح أو المخاوف.
نفس هذا المعنى وصل اليه المفكر الإيطالي أنطونيو جرامشي (المتوفى 1937) في نظريته عن المثقف العضوي المرتبط بقضايا مجتمعه، وهموم أمته، والمدافع بصورة دائمة عن مصالح غير القادرين على الدفاع عن مصالحهم من الطبقات الفقيرة والبسطاء؛ من أبناء المجتمع، وبالتأكيد هذا المثقف يختلف كثيرا عن ذلك المولع بتقليد المركز الأوروبي، وتكرار وترديد شعاراته، والدفاع عن أجندته التي تخدم مصالحه؛ التي هي بدورها في تناقض جذري مع مصالح العالم الثالث الذي كان مجالا للاستعمار والنهب الأوروبي.
أكثر من ستة قرون بين ابن منظور وجرامشي، ولكنها الحقيقة الأبدية تتجلى في عقول البشر بغض النظر عن أزمانهم وأديانهم وألوانهم. ولكن ليس من الضروري أن يبحث الجميع عن الحقيقة، أو أن يلتزموا بمقتضياتها؛ ففي هذه اللحظة التاريخية الحاسمة والفارقة في تاريخ العرب الحديث لا يستطيع أي باحث محايد يؤمن بقول الحقيقة الا أن يقول إن أزمة العرب هي فى النخب والطبقات السياسية والثقافية التي من المفترض ان تقود خطاهم، وترسم مسارات مستقبلهم، وترشدهم الى ما يحقق مصالح اوطانهم بناء على إدراك حقائق الواقع وتحدياته، وبناء على معرفة ما تحتاجه مجتمعاتهم في لحظتهم التاريخية هذه.
منذ الغزو الأمريكى للعراق في عام 2003، ثم انتفاضات الربيع العربي المشؤوم، وما تلاها من حروب اهلية في سوريا واليمن وليبيا وأخيرا السودان، وهناك ليس فقط تراجع شديد في دور النخب الثقافية والسياسية لصالح إما من يملك مفاتيح تحريك الجماهير من خلال الأدوات الشعبوية خصوصا الدينية منها، أو لصالح التدخلات الخارجية؛ اما من دول الجوار العربي، أو القوى الدولية، ولم يقتصر الامر على تراجع الأدوار التي كان ينبغى أن تقوم بها النخب الثقافية والسياسية في دولها ولصالح مجتمعاتها، بل إن العديد من هذه النخب مارس أدوارا تقترب بهم الى خيانة اوطانهم، ورهنها لصالح القوى والجماعات والأحزاب الدينية من جانب؛ او لصالح قوى خارجية سواء من دول الجوار في الإقليم، أو من القوى الدولية صاحبة المصالح الاستراتيجية.
ولعل السبب الأول لتراجع أدوار النخب، أو تخليها عن أدوارها ان الجمهوريات العربية منذ نهاية الطفرة القومية - برحيل الرئيس جمال عبدالناصر رحمة الله عليه الذي تمر عليه هذه الأيام ثلاثة وخمسون عاما– قد تخلت عن مسؤولية الدولة عن الصناعات الثقافية جميعها، وتركت المجال الثقافي برمته ليكون مشاعا لرجال الاعمال، واثرياء الحرب الذين ظهروا بصورة شيطانية في العديد من المجتمعات العربية، وتنافسوا على الهيمنة على الحياة الثقافية، والفكرية إما بتمويل مراكز أبحاث، أو انشاء جامعات ومدارس، أو تمويل صناعة الدراما والسينما...الخ.
إن تخلي الدولة فى العديد من الجمهوريات العربية عن دورها في رعاية المجال الثقافي والفكري والفني كان هو السبب الرئيس في تدهور وضع المثقفين والمفكرين، وتخلي العديد منهم عن دوره الحقيقي، وتحول العمل الثقافي والفكري والسياسي الى مهنة أو سبوبة.
من يتابع دور النخب والطبقات الثقافية والسياسية في العديد من الدول العربية خصوصا التي مرت بتحولات جذرية منذ 2003 الى اليوم يكتشف الى أي مدى تحولت العديد من هذه الطبقات الى معاول هدم في اوطانها، فمن يتابع الأدوار التي قامت بها مكونات هذه النخب في العراق وسوريا واليمن وليبيا والسودان سوف يكتشف الى أي حد كانت هذه الأدوار تهدم في بنية الدولة، وتفككها دون هدف محدد، ودون بديل واضح، والأخطر من ذلك أن هذه النخب أسهمت في تفكيك المجتمع، وتدمير شبكة العلاقات الاجتماعية لخدمة مصالح ضيقة، هي بالتحديد مصالح من يملك التمويل سواء من قيادات الأحزاب الدينية، أو الجماعات الطائفية، أو الكيانات العرقية العنصرية كما ظهر جليا في السودان في الشهور الأخيرة.
ولم يقف دور النخب الثقافية والسياسية عند حدود التأثير السلبي في مجتمعاتهم ودولهم، بل إنه امتد الى ما هو اعمق، فقد قامت هذه النخب بعملية معقدة من التدمير الذاتي، والتفكك الداخلي، فحين تحول أعضاء هذه النخب الى خدمة مصالح متنوعة، ومتنافسة، بل ومتعارضة؛ وليس لمصلحة الدولة والمجتمع، وهي مصلحة واحدة مهما اختلفت الاجتهادات حولها، هذا التحول خلق صراعات داخل تلك النخب ذاتها، ومع تعمق هذه الصراعات، والتنافسات انضم الى تلك النخب من ليس منهم، ولا يملك قدراتهم ولا خلفياتهم ولا معارفهم، وتوسع هذا الاختراق حتى صار الوافدون الجدد أكثر عددا ونفوذا وحضورا من المثقفين الحقيقيين، وهنا حدثت النهاية، وهي أن تلك النخب لم تعد نخبا ولا تحمل مؤهلات النخبة ولا مهاراتها ولا معارفها، وإنما هم طبقة من الشعبويين المغامرين القادرين على اللعب بكل ما يتيحه عالم وسائل التواصل الاجتماعي أو عالم ما بعد الحقيقة.
