هذا النقاش لا يقل أهمية عن الوثائق خاصة أنه يمثل الربط بين السياسة والتاريخ. يربط بين الحرب كواقعة "تاريخية" كبرى وبين واقع الصراع العربي - الإسرائيلي السياسي "الراهن" وحجم الانقلابات الشاملة التي حدثت في مساره ومسار أطرافه في الخمسين سنة التي تلت الحرب.
يفسّر هذا التفاعل، الذي أحدثته بالدرجة الأولى فضيلة نشر الدول لوثائقها بعد مرور ٥٠ سنة، الفرق بين الطريقة العربية "الاحتفالية" للتفاعل مع الذكرى التي لا تستخلص دروسًا، وبين الطريقة الإسرائيلية الصارمة والتي تحوّلها لمناسبة لتفادي الأخطاء والأخطر لتسييد "سرديتها" المغرضة عن أهمّ حرب في تاريخ الصراع. ودفع السردية العربية إلى الهامش.
٣ اتجاهات تفكير استراتيجية رئيسية يمكن للمحلّل استنتاجهم في هذه الذكرى ووثائقها ونقاشاتها على الجانب الآخر:
● شهدت الذكرى الخمسين عودة وقحة لروح الغطرسة التي تسبّبت بهزيمة نظرية الأمن الإسرائيلي على الأقل في أسبوع الحرب الأولى.
أنّ الوثائق الإسرائيلية الجديدة، إن كانت قد فعلت أو أضافت شيئًا فهو أنها قطعت بما هو معلوم من أنّ الأداء الاستخباراتي والعسكري والسياسي للإسرائيليين في الأسبوع الأول من الحرب كان كارثيًا. وتعمّقت حقيقة أنّ سبب هذا الأداء لم يكن نقص المعلومات وإنما حالة الثقة الزائدة في النفس لدرجة الغرور النابعة من ازدراء واحتقار العرب كطريقة تفكير وجيوش وسياسيين فأخذت الإسرائيليين الصدمة التي أشعرتهم للمرة الأولى - وقد لا تكون الأخيرة - أنّ كيانهم الاحتلالي معرّض للضياع والاختفاء من الوجود.
غطرسة اليمين الحاكم لا تقلّ عن غطرسة فريق جولدا مائير في العام ٧٣
لكن كان لافتًا تحدي رئيس الحكومة المتطرّفة بنيامين نتنياهو لما استقرّ في الوعي الجمعي الإسرائيلي منذ العبور المذهل للقوات المصرية وتدميرها لخط بارليف، من أنّ هذه الحرب كانت "كارثة وطنية وصدمة وجودية" لكيان الدولة، بلورتها لاحقًا استخلاصات تحقيق لجنة "أجرانات" عن تقصير وقرارات خاطئة في التقدير وفي التصرّف استوجبها جلد عميق للذات.
وزعم نتنياهو أنّ إسرائيل انتصرت في هذه الحرب انتصارًا ساحقًا وأنّ العرب هزموا هزيمة ساحقة، مدّعيًا أنّ الدليل على ذلك أنّ الحرب انتهت والجنود الإسرائيليين على أبواب القاهرة ودمشق. هذا الإدعاء لم يكن أكثر من عملية استغلال سياسي للمناسبة حاول فيه نتنياهو الإيهام بأنه لولا انتصار إسرائيل في هذه الحرب ما كانت وصلت إلى القوة الاقتصادية والتكنولوجية المدنية والعسكرية التي تحوزها ولا للتطبيع الواسع بينها، العلني والسري، بين ما يقرب من نصف العالم العربي، مرورًا بانتقال اتفاقات السلام إلى تعاون أمني غير مسبوق مع العالم العربي، انتهاءً بقرب التطبيع مع السعودية الذي سيغيّر تاريخ الشرق الأوسط كلّه.
● هذه الغطرسة لدى المؤسسة الحاكمة الإسرائيلية المتمثّلة في إعادة كتابة تاريخ حرب أكتوبر بما يلغي الهزائم الإسرائيلية فيها ويطمس النجاحات العربية فيها، سمحت بتطوّر بالغ الأهمية ألا وهو بلورة اتجاه تحذيري مضاد بالغ القوة وشديد التشاؤم بشأن مستقبل إسرائيل.
ما حقّقته حرب أكتوبر من كسر لنظرية الأمن الإسرائيلي ما زال قائمًا
هذا الاتجاه يتبنّاه سياسيون وعسكريون مخضرمون وصهيونيون حتى النخاع. هذا التوجّه يقول إنّ غطرسة اليمين الحاكم لا تقلّ عن غطرسة فريق جولدا مائير الحاكم في ٧٣ والذي قاد لما اعتبرها العقل الاسرائيلي الكارثة الوطنية الأكبر منذ إنشاء الدولة ١٩٤٨، وبالتالي فإنّ الغطرسة الحالية ستقود إلى سوء تقدير مماثل لما حدث في ٧٣ ومن ثم ليس هناك ما يمنع من أن تتعرّض إسرائيل إلى مفاجأة وصدمة كبرى كصدمة عبور الجيش المصري للضفة الشرقية للقناة، ولكنها ستكون أسوأ هذه المرّة بسبب التطوّر التكنولوجي وظهور مفهوم وحدة الساحات على الجانب الفلسطيني والعربي المقاوم والذي قد لا يحتاج إلا إلى ثوان وضغطة زر تطلق إما هجومًا صاروخيا أو هجومًا سيبرانيًا قد يعطّل القيادة الإسرائيلية ويشلّ تفكيرها.
بعبارة أوضح يرى هذا الاتجاه أنه رغم كل التنازلات التي قدّمها قادة عرب في اتفاقيات سلام وتطبيع، فإنّ ما حقّقته حرب أكتوبر من كسر لنظرية الأمن الإسرائيلي ما زال قائمًا وأنّ التفوّق النوعي ونقل المعارك لأرض الغير كواقع استراتيجي للدولة العبرية لن يحول دون تعرّض إسرائيل لزلزال وجودي آخر.
● الوثائق المفرج عنها ربما لم تأتِ بقنبلة معلومات جديدة، إذ إنّ معظمها كان قد تمّ تسريبه تدريجيًا في وثائق سابقة أو في مذكرات مسؤولين إسرائيليين سابقين. لكنها أتت على تفاصيل زادت من وضوح حقيقة تاريخية مأساوية ومحزنة، ألا وهي أنّ كل الانحياز والتآمر والدعم الأمريكي والأوروبي غير المحدود لإسرائيل لم يكن قادرًا لوحده أنّ يحقّق لإسرائيل كلّ هذه الانتصارات السياسية في العقود الخمسة الأخيرة. وأنه لولا الخدمات "الجليلة" التي قدّمها مسؤولون عرب بما فيها اتصالهم بالقيادة الإسرائيلية الأمنية "الملاك" (ينوكا) أو (الطفل بالعبرية) ليبلّغوهم عن قرب شنّ المصريين والسوريين للحرب لكن غرور إسرائيل وقتها جعلها لا تستفيد من تحذيرات "أصدقائها" العرب.
المشكلة الأخطر تتعلّق بما تثبته الوثائق من أنّ هذه الصلات والتي تشمل عربًا نافذين من أقصى المشرق العربي إلى أقصى المغرب العربي هي صلات مستمرة إلى اليوم إذ ينظر فيها هؤلاء العرب إلى إسرائيل باعتبارها حامية وضامنة لاستمرار نظمهم السياسية وأنّ هذه الصلات انتقلت حتى إلى نفر من أصحاب القضية الفلسطينية يتحدث الإسرائيليون علنًا عن "رجالنا في رام الله"!!.
لا يعلم إلا الله بعد خمسين عامًا من أعظم أداء عسكري عربي وأسوأ أداء سياسي عربي كم "قرضاي" عندنا يساعد إسرائيل سرًا وعلنًا.
(خاص "عروبة 22")