قضايا العرب

"إعادة إعمار درنة".. ومعركة "الأموال المجمّدة"

بينما تحوّلت عملية إعادة الإعمار في مدينة درنة الليبيبة، أكثر المناطق المتضرّرة من كارثة إعصار "دانيال" إلى معركة سياسية بين حكومتي الوحدة والاستقرار المتنازعتين على السلطة في البلاد، باتت أموال ليبيا المجمدة منذ سقوط نظامها السابق عام 2011 محط أنظار الطرفين، وسط تساؤلات محلية ودولية حول قدرة أي منهما على فك الحظر الدولي المفروض على ثروة الشعب الليبي.

في غياب أي رقابة معتمدة، مقابل انتشار الفساد المالي والإداري، احتدم التنافس بين حكومة الوحدة المؤقتة التي يترأسها عبد الحميد الدبيبة وتمارس مهامها من العاصمة طرابلس، وغريمتها حكومة الاستقرار الموازية الموجودة في المنطقة الشرقية برئاسة أسامة حماد ولا تحظى بأي اعتراف دولي، على إدارة ملف إعادة الإعمار، بشكل منفصل وبدون تنسيق مشترك، وعلى حساب دماء وآلام المتضررين والضحايا.

ودخلت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن على الخط، بعدما اقترحت عبر ريتشارد نورلاند سفيرها فى طرابلس الليبية "إنشاء الهياكل الموحدة - التي تجمع السلطات من جميع أنحاء البلاد - معًا للاتفاق على النفقات ذات الأولوية وضمان تخصيص الأموال بأكثر فعالية بدلًا من إطلاق جهود منفصلة".

المقترح الأميركي... بين حكومتَي حماد والدبيبة

وكالعادة، انحاز نورلاند إلى حكومة الدبيبة على حساب حكومة حماد، بعدما اعتبر أن اعتزام  الأخيرة عقد مؤتمر لإعادة الإعمار في بنغازي في العاشر من الشهر الجاري، "سيكون أكثر فاعلية إذا تم إجراؤه بشكل مشترك وشامل"، بالتنسيق مع المؤسسات التي تدير الموارد والتمويل مع الأخذ في عين الاعتبار ما وصفه بـ"المصالح الفضلى للشعب الليبي".

وعدّ السفير الأمريكي هذا التنسيق ضروريًا لضمان حصول ضحايا الفيضانات على الدعم الذي يحتاجونه وتعهد بالعمل مع المسؤولين الليبيين والأمم المتحدة لدعم برنامج إعادة الإعمار الذي سيثق به الليبيون.

وانضمّت دول أخرى إلى جانب أمريكا والأمم المتحدة في المطالبة بتوحيد الجهود بين حكومتي حماد والدبيبة، لضمان نجاح عملية إعادة الإعمار، التي باتت أيضًا محل منافسة إقليمية شرسة بين عدة دول تطمح للفوز بالنصيب الأكبر من العقود والاتفاقيات المحتملة بالخصوص.

لكن حكومة حماد المحسوبة على مجلس النواب الليبي والجيش الوطني، ضربت كافة المطالب الدولية والمحلية بعرض الحائط، ودعت لعقد مؤتمر دولي لإعادة إعمار مدينة درنة والمدن المتضررة يضمن توافر منافسة الشركات العالمية.

وبدون توافر ميزانية محددة، نظرًا لأن حكومة الدبيبة فقط هي من يتولى حتى الآن استلام عائدات النفط الليبي، ولمجرد البقاء في المشهد السياسي، دعا حماد المجتمع الدولي للمشاركة في فاعليات هذا المؤتمر لتقديم الرؤى الحديثة والسريعة لإعادة إعمار درنة وبقية المناطق المتضررة، بما في ذلك إعادة بناء الطرق والسدود التي تحمي المدن من أي كوارث طبيعية.

واستغل حماد اجتماعه مع مسؤولي شركات مصرية مؤخرًا للتأكيد على ضرورة بدء الإعمار في مدينة درنة وضواحيها عقب الانتهاء من عمليات البحث والانقاذ، وطالب بالتعجيل بالمشاريع في المناطق المنكوبة.

لكن وعمليًا على الأرض، تنفذ بعض الشركات المصرية، مشروعات في هذه المناطق متفق عليها حتى قبل تدشين عملية إعادة الإعمار.

منافسة إقليمية ودولية

وبينما جرى التسويق إعلاميًا لاعتزام مصر المساعدة في إعادة إنشاء سدود درنة، تسعى تركيا لاستعادة تواجد شركاتها، التي كانت ستشرف منذ سنوات على هذه السدود، قبل أن تنسحب من المنطقة الشرقية لاعتبارات سياسية وأمنية ومالية.

التواجد المصري في المنطقة الشرقية الليبية ليس جديدًا، عندما يتعلق الأمر بإعادة الإعمار، فقد سبق على هامش المؤتمر الدولي للبناء والتشييد المقام بمدينة بنغازي العام الماضي بحضور كبرىات الشركات المصرية المتخصصة في البناء والتشييد، التأكيد على أهمية دورها في الاستعداد لمرحلة الإعمار تحت إشراف حكومة حماد.

ورغم علاقات مصر الاستثنائية مع السلطات في شرق ليبيا، فانها تواجه منافسة من دول أخرى مثل تركيا والصين وإيطاليا.

وكشف وزير الاستثمار بالحكومة الموازية، علي السعيدي، عن عرض صيني لإعادة بناء البنية التحتية بمدينة درنة، مشيرًا إلى أنه تلقى خطابًا رسميًا من تحالف الشركات الصينية.

السعيدي الذي تحدث عن إمكانية إنشاء مدينة تسمى "درنة الجديدة"، لفت إلى قدرات الصين وإمكانياتها المالية الكبيرة في إنشاء البنية التحتية في وقت قياسي على الرغم من أنه أبقى الباب مفتوحًا أمام "كافة الشركات دون استثناء" للمشاركة في إعادة الإعمار.

ويعتقد الصحافي الليبى محمد المصراتي أنّ هناك فرصة للاستفادة من تواجد الشركات الصينية في مصر بما فى ذلك العاصمة الإدارية ومدينة العلمين الجديدة التي تبعد عن الحدود الليبيبة  370 كيلومترًا فقط، ما يمكن هذه الشركات عمل هذه الشركات التي تتميز بالجودة وسرعة التنفيذ من نقل معداتها في يوم واحد.

دخول المنفي على خط "الأموال المجمّدة"

عبر بيان مقتضب، تجاهل فيه الإشارة إلى حكومة الوحدة لكنه أقرّ ضمنيًا بوجود نزاع حول مدى شرعيتها، قال رئيس المجلس الرئاسي الليبي محمد المنفي، إنّ السلطات المنتخبة وفق دستور دائم هي من تملك التصرف في الأموال الليبية المجمدة، لافتًا الى أنّ الدعم الدولي في كل مراحله يحتاج إلى مؤسسة ليبية مختصة وموحدة تحظى بثقة المتضررين.

لكن المنفي الذى يقدّم نفسه وبحكم اتفاق جنيف عام 2020 الذي رعته بعثة الأمم المتحدة وأدى إلى تواجد المجلس الرئاسي وحكومة الدبيبة، لا يمتلك في الواقع أي تأثير يذكر على هذه الحكومة ولا حتى على منافستها في الشرق.

وبينما أبدت إيطاليا اهتمامها بملف إعادة تأهيل البنية التحتية في درنة، وميناء المدينة، وتنفيذ مشروع إنشاء جسر يربط شرق المدينة بغربها، سعت تركيا عبر كنعان يلماز سفيرها في طرابلس لتقديم نفسها كطرف محتمل في عملية إعادة إعمار درنة، حيث كرر في اجتماعاته مع عبد الله اللافي، وموسى الكوني نائبي المنفي، استعداد بلاده، لتقديم كافة الاحتياجات اللازمة، من أجل مساعدة المدن التي اجتاحتها الفيضانات، لعبور هذه الأزمة.

وبحسب بيان رسمي للمجلس الرئاسي، فقد ناقش اللافي والكوني في اجتماعين منفصلين مع يلماز أوجه التعاون الليبي التركي في عديد المجالات لا سيما إعادة إعمار درنة، والمناطق المجاورة.

أكثر من 140 مليار دولار "مجهولة المصير"

وتواجه الأموال الليبية المجمدة في الخارج، تحديات الوضع السياسي المأزوم في الداخل الليبي، إلى جانب الفوضى الأمنية والإدارية، التي سمحت للفساد بالتغلغل داخل مؤسسة الاستثمار، المسؤولة عنها.

وتجاهلت الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي والدول المعنية، دعوات الجامعة العربية بعد سقوط نظام العقيد القذافى للإفراج عن الأموال والأصول الليبية المجمدة.

وطلب مجلس الأمن الدولى في قراره رقم 1970، من كل الـدول تجميد جميع الأموال والأصول المالية والموارد الاقتصادية الأخـرى لليبيا الموجـودة في أراضيها وعـدم إتاحة أي منها.

وحتى قبل سقوط نظام القذافي، سعت أمريكا لدعم معارضيه باستخدام الأموال المجمدة، فى عملية وصفت بـ"القرصنة التاريخية".

وبحسب مسؤولين في النظام السابق، فإنه كان لدى ليبيا أكثر من 140 مليار دولار مستثمرة في الخارج، من بينها نحو 34 مليار دولار موزعة على عدة بنوك أمريكية وأقل من 20 مليار دولار في بريطانيا ونحو 27 مليار دولار في إيطاليا وفرنسا وألمانيا.

وهكذا تم ببساطة، تجميد هذه الأموال، التي لطالما سيطر عليها القذافي والدائرة المقربة منه، لكنها لم تعد حتى بعد مقتله وانهيار حكمه، حيث لم تستعد الدولة الليبية حتى الآن سيطرتها على هذه الأموال رغم مرور 12 عامًا على سقوط القذافي ونظامه.

وجرت محاولات لاستنزاف هذه المليارات بحجج شتى من بينها اختفاء مفاجئ لنحو 50 مليون دولار في البنوك البلجيكية، ومحاولة بعض أعضاء مجلس العموم البريطاني الذين يمثلون (شمال إيرلندا)، استغلالها في تعويض ضحايا هجمات الجيش الإيرلندي الذي أيّده القذافي.

ورغم أن حكومة الوحدة حذرت قبل عامين، بعض الدول التي لم تحددها، من محاولة الاستيلاء على الأموال المجمدة، فلا زال مصيرها مجهولًا ويعتريه الغموض، تمامًا كمصير الوضع السياسي والعسكري الراهن، بينما لم يتقدم أحد أو أي جهة للحصول على مكافأة رسمية بنسبة 10% لمن يعيد هذه الأموال إلى ليبيا.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن