نقول إنّ ما يجري في فلسطين الآن أهميَّتُه هو في "الآنيَّة" نفسها. فالحقُّ في استرجاع الأرض وتحرير فلسطين لم يتغيَّر منذ احتلالها، لكن ما تغيَّر هو أداءُ استظهار الحقِّ في الواقِع. فعندما تكون مهزومًا عليكَ أن تفهمَ أسبابَ هزيمتك لتعي إمكان نهضتك وانبعاثك الفاعل من جديد. ولمَّا كانت القضية الفلسطينية قد وصلت من المستوى لأن تستدعي حلًّا عادلًا وشاملًا بحسب إمكانات المواثيق الدولية والقدرة على إحلال السلام، فإنّ المفاوضات بين العرب والدول الكبرى تستدعي قدرةً على استعادة نقطةِ البداية في إظهار "الحقِّ المعيش"، أي متانة حضور الحق في الفكر السياسي الراهن.
أثبت الفلسطينيون للعالم كلِّه أنّ "موت الحق" غير ممكن مهما تقدَّمت الهيمنة على الشعوب
لا شكّ بأنّ المُحتَل الإسرائيلي تفاجأ من جديد بفعلٍ مسَّ شعورَه الوجودي على أرضِ فلسطين؛ فالمستوطنون في المستعمرات لم يتوقَّعوا إمكان زعزعة أمنهم واستقرارهم الذي فرضوه بقوة السلاح وطغيان سياسة الهيمنة الغربية الداعم لهم منذ "وعد بلفور"، لذا كانت الصدمة عندهم هي في عدم نسيان كينونة الحق، إذ إنّ الهجوم عليهم تمَّ ضمن اعتبارٍ يفوقُ حضورَهم الهُلامي على أرضٍ ليست لهم، وهذا إظهارٌ لـ"عدم موت الحق"، والحقُّ هنا هو "فلسطين عربية".
أثبت الفلسطينيون للعالم كلِّه أنّ "موت الحق" أمر غير ممكن مهما تقدَّمت الهيمنة على الشعوب، ومهما حمت التكنولوجيا المتقدّمة والذكاء الاصطناعي هذه الهيمنة، فالوجود المصطَنَع لا يمكنه أن يفوق الوجود الحقيقي. من هنا يصبِحُ وعيُ النضال بكيفيات تحقِّقُ الحضور الفاعل على أرض الحدث هو الاقتدار الناجع في بعث الكينونة الحرَّة حيث يلزم، أي في ابتكار إنسانيَّة الإنسان في اللحظة الجديدة التي ستطغى بنقائها على الواقِع العادي الذي تسري فيه هيمنة الظالم.
إنّ خطابَ الحَقِّ سيُبْدِعه الحدث، لأنّ مكوِّنات الخطاب لم تكن واقعيةً قبل واقعة غزَّة مؤخَّرًا. من هنا سيكون الممكنُ هو نفسُه المعيش، وهذا ما يُقَوِّي خطاب الحقِّ العالمي، أي يجعل الأصوات المنادية لتحرّر الشعوب وإحلال السلام والأمان الدوليين فاعلةً لتطوير أدائها في إثبات فاعليتها في التطبيق. لحظةُ الحرب هي لحظةُ الحقيقة، لذا عليك ألا تُقْدِمَ على الحرب إلا إذا كانَ لديكَ مشروعٌ للسِّلم. وإن القارِئَ في المشهد العربي السياسي اليوم، سيرى أنّ الدبلوماسية العربية نشطةٌ في مواضِعَ ليست بسيطة في تأثيرها على تغيير مجرى الحدث، أي ليست هيِّنَةَ الإمرارِ دوليًّا هذه المرة. فالحراك السياسي الخليجي والأردني والمصري يوضِحُ أنّ هناك توجُّهًا عربيًّا لضبط النزاعات في المنطقة العربية، وبالنتيجة لتحقيق الاستقرار، لأنّ المطلوب هو إنهاض الدول وإحراز التحديث ومواكبة الثورة الرقمية والاشتراك في معطياتها، أي عدم ترك الدول في موضعٍ تكون فيه غير قادرةٍ على طرح رأيها في نوعية الانوجاد الدولي السياسي والتنموي الفاعل.
العرب ليسوا ضعفاء كما هو التصوّر السائد، بل إنّ الربيع العربي بكلِّ المعايير جاء كردة فعلٍ، فثارت الشعوب العربية في وجه حكّامها، وبدأت معركة الحرية؛ وهي معركةٌ طويلة، لكن أهميتها أنها وعيٌ للكينونة الانبعاثية في الحدث، أي نقطة البداية فيها هي لحظة الفهم الراهن، وليس أي استعادة أيديولوجيَّة قَبْليَّة ولا استذكارٌ لنجاح حضاري سابق، لهذا واجهتها السياسات المهيمنة على المنطقة، العالميةُ منها والإقليمية، بإثارة الكينونات المارقة في وجهها، فظهرت حركات الإسلام السياسي لتعمي قلْبَ الحراك، لكنها لن تستطيعَ إيقاف إمكان الفَهمِ للواقع الجديد انطلاقًا من ضراوة الحدث الراهن.
عملية "طوفان الأقصى" هي نقطة بداية
من هنا، نقول إنّ كل هذه الصورة المتحقِّقَة فعليًّا في بلادنا هي التي تمكِّنُ النضال في سبيل الحق من أن يكون ذا جدوى في أرض الحدث. إنّ فلسطين اليوم ستكون مَبْعَث استيعاب الحق بما هو ظاهرة معيشة. ولسنا نبالغ إن قلنا إنّ المفكّرين والفلاسفة اليهود أيضًا، سيكون لهم توجُّه جديد لفهم فلسفة الحق، فشعورهم على مدى الصراع العربي الصهيوني منذ تأسيس "دولة إسرائيل" لا بد أنه تغيَّر، ولا بد أن تفاعلَهم في فلسطين قد ولَّد تصورًا جديدًا لكينونتهم وهُويَّتهم وسياستهم.
لذا، إنّ عملية "طوفان الأقصى"، هي نقطة بداية، أي إمكان لفهمٍ جديد، وبالنتيجة لسياسةٍ غير مسبوقة في العلاقة بين العرب والعالم، من منطلَقٍ لا يخلو مِن عناصر القوة والتأثير والقدرة على فرض الرأي مجددًا على طاولات الحوار والتفاوض الدولية، أي إنّ الخطوة الأساس التي يبدو أنّ مفاعيلها بدأت تتظهَّر تباعًا بعد كل التخريب الذي جرى في أرضنا ودولنا وشعبنا والبنية التواصلية الشاملة بين شعوبنا هي أنّ الإنسانَ بدأ يعي الحَدَث. وهذا المهم فعليًّا، إذ إنّ وعيَ الحقِّ في الحدَث هو الفعل الذي يؤدي إلى امتلاك الواقع، والتأثير في صناعته بدل من الاكتفاء باصطناعه واقتباله دون اشتراكٍ في صوغِه.
(خاص "عروبة 22")