أفضى الشعور بالإحباط الناجم عن توالي الهزائم العسكرية، وعجز الانتصار الوحيد في أكتوبر 1973 عن تحرير كامل الأرض إلى إيثار طريق التسوية، الذي لم يكن خطأ مبدئيًا وإن ظلّ قاصرًا عمليًا؛ فالصراعات التاريخية، بكل تعقيداتها الدينية والقومية، ناهيك عن خيالاتها الأسطورية، لا تكون قابلة للحل على أُسُس عادلة إلا حينما ينشأ من الظروف الموضوعية ما يصنع توازنًا استراتيجيًا ما، سواء كان صلدًا في ميزان القوة العسكرية بين طرفيها، أو مرنًا بين عوامل القوة الشاملة: الاقتصادية، والسياسية، والأخلاقية، والقانونية، ونقيضتها العسكرية.
ولعلّ نمط التوازن الأخير كان هو الممكن في حالة الصراع العربي – الإسرائيلي، ولذا دارت على قاعدته جميع مسارات التفاوض دون بلوغ غايتها النهائية، لعجز العرب عن بذل الجهد المطلوب لتفعيل قوتهم الشاملة التي تحتاج بطبيعتها إلى من يديرها وينسّق بين أطرافها ويلح على مبرراتها لتبقى ظاهرة أمام أعدائها ومقدّرة، بعكس القوة العسكرية التي لا تحتاج سوى لنشرها على الأرض أمام الناظرين لتبدو رادعة. ومن ثم سارت المفاوضات العربية الإسرائيلية في طريق التنازل المستمر بدءًا من مؤتمر مدريد، مرورًا بأوسلو، واتفاق القاهرة والخليل وكامب ديفيد الثانية، وخريطة الطريق، وصولًا إلى صفقة القرن التي أعلنتها الولايات المتحدة من جانب واحد، قبل أن يتوقف تمامًا مسار التسوية السلمية ويبدأ مسار التطبيع بين إسرائيل وعدد من الدول العربية، قفزًا على قضية الاحتلال، وإهدارًا لحقّ الفلسطينيين في دولة مستقلة.
كان متوقعًا أن يأتي الرد الإسرائيلي انتقاميًا وعنيفًا لا يتورع عن صيد المدنيين دونما اكتراث بأية قيم أخلاقية
هذا الواقع هو ما حاولت المقاومة الفلسطينية، بشقّيها حركتي "حماس" و"الجهاد"، من خلال ذراعيهما العسكريين "كتائب عز الدين القسام" و"سرايا القدس"، أن تتحداه، بالعملية الشجاعة "طوفان الأقصى"، التي استلهمت حرب أكتوبر 1973م في ذكراها الخمسين، سواء في التاريخ أو في المفاجأة الإستراتيجية، فنالت من أرواح العدو ما لم يحدث منذ 1973 (أكثر من 1400 قتيل وأكثر من ثلاثة آلاف جريح) بل إنها تمكّنت من نقل الحرب إلى أرضه لأوّل مرة، ما أثار الذعر في مواطنيه وأربك قيادته العسكرية والسياسية والأمنية إلى أقصى مدى.
كان متوقعًا أن يأتي الرد الإسرائيلي انتقاميًا وعنيفًا على نحو ما رأينا، لا يركّز على مقاتلي المقاومة، ولا يتورع عن صيد المدنيين، دونما اكتراث بأية قيم أخلاقية، حيث جرى الحصار الكامل لغزة، وقذفها بالصواريخ والطائرات والقنابل الفسفورية دون هوادة، ولذا وصل عدد الشهداء الفلسطينيين إلى نحو 3200، بالإضافة إلى 11 ألف جريح معظمهم من الأطفال والنساء.
المطلوب والممكن هو استخدام ما يملكه العرب من أوراق ضغط
اليوم، تبدو الملامح الأساسية للمشهد سماءً مفتوحة أمام الطيران الإسرائيلي، مدعومًا بحاملة طائرات أمريكية تصاحبها إمدادات غير محدودة من الأسلحة والذخائر، سواء من الولايات المتحدة أو بريطانيا أو ألمانيا. ومقاومة تستنفد جلّ طاقتها المختزنة من عتاد وسلاح، حيث لا مصدر لديها لتجديد مخزونها من السلاح والذخيرة. ومدينة مغلقة فقدت ما لديها من غذاء ومياه وكهرباء بعد قيام إسرائيل بضرب كل مصادر تغذيتها، بل إنها فقدت قدرتها على علاج جرحاها المتزايد عددهم بعد نفاد الوسائل وبفعل استهداف الطواقم الطبية والمستشفيات. وهنا يتعدّى الأمر حيّز المواجهة بين المقاومة وإسرائيل، غير المتكافئة أصلًا، إلى حيّز المواجهة بين المقاومة والغرب، وهي مواجهة عبثية، بل عدمية، لا بدّ وأن تسفر عن "هولوكست" حقيقي ما لم يتدخّل العرب بقوة لتقديم غطاء استراتيجي لغزة والمقاومة يقضي إلى وقف إطلاق النار، وبداية عملية سياسية فعّالة.
لا ندعو هنا إلى استخدام السلاح في مواجهة أمريكا والغرب، ولكننا نحذّر من الاقتصار على عقد اجتماعات دبلوماسية وإصدار بيانات تقليدية، فالمطلوب والممكن هو استخدام ما يملكه العرب من أوراق ضغط، تتوفّر بالذات لدى النافذين منهم، كالمملكة السعودية والإمارات وقطر ومعهم مصر.
فمسارات التطبيع المجاني يمكن التهديد بإيقاف ما بدأ منها، ونفي ما كان يخطّط له. أما ورقة الغاز والبترول فلا يزال ممكنًا الضغط بها كما جرى قبل خمسين عامًا، بل وأكثر فى ظلّ حاجة الاقتصاد العالمي لمصادر الطاقة العربية في ظلّ توقف الإمدادات الروسية. العرب قادرون لو أرادوا، وإلا فهي المحرقة.
(خاص "عروبة 22")