إذ استطاعت المقاومة الفلسطينية بقدرات محدودة، أن تنسف نظرية الجيش الإسرائيلي الجبّار الذي لا يُقهر وأن تُلحق به إهانة تفوق ما تعرّض له أثناء اجتياح أكتوبر الأول قبل خمسين عامًا.
وثانيًا بدّدت المقاومة، نظرية التفوّق الاستخباراتي والتقني الإسرائيلي الذي تراكضت دول كثيرة في العالم لشراء برامجه، ومنها حكومات عربية، لتكتشف أنّ ما اشترته وما رُوج له مصيره سلّة المهملات.
وثالثًا، بدّدت المقاومة الفلسطينية صورة إسرائيل الجبّارة التي توفر لمن يتحالف معها الحماية العسكرية والاستراتيجية، فبدت عاجزة عن حماية نفسها، وسكّانها، بل سارعت في ضعفها للإستنجاد بالطائرات والبوارج وحاملات الطائرات الأمريكية، رغم أنها لا تواجه جيشًا منظًمًا، ولا دولًا قادرة.
سلوك الحكومة الإسرائيلية بعد الفشل العسكري اتّسم بعدة أمور:
أولًا، الارتباك الذي ساد لفترة من الوقت نتيجة هول صدمة الفشل والاحباط عسكريًا وسياسيًا واستخباراتيًا واستراتيجيًا، وهو فشل سيحاسَب عليه نتنياهو شخصيًا عند تشكيل لجان التحقيق.
ثانيًا، محاولة التغطية على الخسارة العسكرية المهينة بانهيار "فرقة غزة" وكامل الحدود على قطاع غزة، بالتركيز على الخسائر المدنية، والمدنيين، ورغم وقوع إصابات مؤكّدة في صفوف المدنيين الإسرائيليين، فإنّ نتنياهو لجأ إلى سلسلة من الأكاذيب مثل ادعاء "قطع رؤوس الأطفال" واغتصاب النساء، وهي أكاذيب بدأت تنكشف الواحدة تلو الأخرى، إذ اضطرت صحيفة لوس أنجلس الأمريكية للإعتذار عما كتبته حول وقوع حالات اغتصاب وتراجعت عن تبنيها لأكاذيب الناطقين الإسرائيليين، أما مراسلة محطة CNN فنشرت إعتذارًا عن ما نشرته على لسان الناطقين الإسرائيليين حول "قطع رؤوس الأطفال" لأنّ أحدًا لم يستطيع إثبات ذلك الادعاء.
استغلّ حكّام إسرائيل الأحداث لإخراج خططهم الجاهزة لاستكمال الضم والتهويد لما تبقّى من فلسطين
ثالثًا، العمل على نزع إنسانية الفلسطينيين عمومًا، ووصفهم كما قال وزير جيش الاحتلال غالانت بأنهم "حيوانات بشرية" وذلك بعد حملة مكثّفة لوصف حركة حماس بـ"الداعشية"، بهدف التمهيد، كما قالت منظمة هيومان رايتس ووتش، لارتكاب جرائم حرب ضد الفلسطينيين، والتي وصفت تصريحات غالانت بالمقززة.
رابعًا، احتواء المعارضة الإسرائيلية بإدخال غانتس للحكومة الإسرائيلية، في مشهد يعبّر عن توحّد جميع الأحزاب الصهيونية خلف نتنياهو، وأكد ذلك عدم وجود معارضة إسرائلية مؤثرة لسياسة الحكومة الإسرائيلية الفاشية عندما يتعلّق الأمر بالفلسطينيين.
خامسًا، تجنيد معظم الدول الغربية وفي مقدّمتها الولايات المتحدة، التي يحرّك رئيسها الدافع لسكب أصوات ودعم اللوبي الصهيوني في الانتخابات الرئاسية القادمة، خلف الرواية الإسرائيلية بكل ما فيها من حقائق وأكاذيب، وبروباغندا سوداء، في مشهد بالغ الغرابة يوحي دونما شك بدوافع عنصرية واستعمارية عميقة.
سادسًا، محاولة التعمية على أنّ جوهر وأساس الصراع الدائر هو استمرار إسرائيل في تكريس تطهيرها العرقي لـ 70% من الشعب الفلسطيني منذ 75 عامًا، ومواصلة الاحتلال الأطول في التاريخ الحديث، والذي تحوّل إلى منظومة أبارتهايد وتمييز عنصرية، وتشويه ما حدث وكأنّ الفلسطينيين هم المعتدون، وهم الذين يحتلون أراضي الغير، وأنّ إسرائيل هي الضحية الأبدية في كل صراع.
سابعًا، وهذا هو الأهم، استغلال حكّام إسرائيل للأحداث لإخراج خططهم الجاهزة لاستكمال الضم والتهويد لما تبقّى من فلسطين ووضعها في مسار التنفيذ الفعلي.
وتجلّى ذلك أولًا في وقوف نتنياهو في الجمعية العامة للأمم المتحدة قبل أيام من بدء معركة غزة حاملًا خريطة إسرائيل على مرأى ومسمع المجتمع الدولي، وهي تضمّ جميع الضفة الغربية المحتلّة بما فيها القدس والجولان المحتل، وكذلك قطاع غزة، الذي طالما إدّعت إسرائيل كذبًا أنها أنهت احتلاله.
وباشرت إسرائيل بدعم أمريكي بلا حدود، وغربي واسع، وتقاعس عربي رسمي عن الارتقاء إلى مستوى التحدي، تنفيذ أربع عمليات متوازية:
العملية الأولى، حملة منهجية ومنظّمة لنزع إنسانية الفلسطينيين وتبرير ارتكاب جرائم الحرب ضدهم علنًا وعن سابق إصرار وترصّد.
أسلوب الأرض المحروقة الذي تنفذه إسرائيل لم يسبقها إليه سوى ألمانيا النازية عند اجتياحها للأراضي الروسية
العملية الثانية، فرض حصار مطلق على دخول المياه والكهرباء والطعام والأدوية والعلاجات، مما سبّب كارثة إنسانية وصفها الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش بأنها خرق للقانون الدولي، ووصفتها منظمات حقوق الانسان بأنها جريمة حرب، مسبّبة واحدة من أبشع الكوارث الإنسانية في التاريخ الحديث.
العملية الثالثة، عملية ابادة جماعية عبر قصف وحشي بهدف تدمير كل البنيان السكني والعمراني وقتل أكبر عدد من الشهداء الفلسطينيين في عملية إنتقامية بشعة وحاقدة، مع تدمير شامل للبنية التحتية، بما في ذلك المستشفيات والمدارس والجامعات والجوامع والعيادات وبيوت الناس، ولا يخفي الاحتلال نواياه بتسوية غزة بمدنها ومخيماتها وقراها بالأرض، في ظاهرة لم يسبق لها مثيل في كل الحروب السابقة، إذ يستعمل أسلوب الأرض المحروقة الذي تنفذه إسرائيل ولم يسبقها إليه سوى ألمانيا النازية عند اجتياحها للأراضي الروسية، وفي الخلاصة فإنّ ما يُنفّذ ليس سوى إبادة جماعية لشعب بكامله.
العملية الرابعة، وهي الأخطر، محاولة إرتكاب نكبة جديدة وترحيل جميع سكان قطاع غزة إلى مصر في واحدة من أكبر عمليات التطهير العرقي في القرن الواحد العشرين. لم يُخفِ نتنياهو نواياه إذ رفع قبل بدء معركة غزة خريطة فلسطين في أروقة الجمعية العامة للأمم المتحدة وهي تضمّ جميع الأرض المحتلة بما فيها الضفة والقدس وقطاع غزة والجولان المحتل، وأعلن عن بدء المعارك بغية إجبار كل فلسطيني في غزة على ترك منزله، ثم خرج الناطق العسكري باسم الجيش الإسرائيلي ريخت ليعلن أنّ على جميع سكان غزة مغادرة منازلهم والتوجه إلى مصر، ودعم موقفه المتحدث باسم وزارة الدفاع الأمريكية الذي طالب مصر بفتح ممر واحد باتجاه مصر لتهجير السكان دون القبول بإدخال أي شيء من المساعدات الانسانية لغزة.
وهكذا تبلورت بوضوح أهداف حكومة إسرائيل الفاشية، وهي:
نزع إنسانية الفلسطينيين وتصفية قضيتهم الوطنية، وتصفية المقاومة الفلسطينية، وتنفيذ تطهير عرقي كامل لقطاع غزة، ومن ثم ضمه، بعد تدمير كل بيت فيه، لإسرائيل بترحيل أهل غزة ومنعهم من العودة، ومن ثم الانتقال لمهمة التطهير العرقي في الضفة الغربية.
لا توجد الآن مهمة أهم من إفشال مخطط الإبادة الجماعية والتهجير القسري لسكان غزة
هذا هو الحل العنصري الاستعماري لمعضلة إسرائيل الديمغرافية، ولحل مشكلة وصمها بالأبرتهايد، عبر ارتكاب نكبة جديدة ضد الشعب الفلسطيني.
لا توجد الآن مهمة أمام كل القوى المناضلة الفلسطينية، والشعوب العربية، وقوى التضامن العالمية، أهم من إفشال مخطط الإبادة الجماعية والتهجير القسري لسكان قطاع غزة وتنفيذ تطهير عرقي جديد، لأنّ إفشال ذلك المخطط سيهدم ويبدد مجمل الخطة الصهيونية العنصرية، ويفتح باب الحرية والتحرير أمام الشعب الفلسطيني.
كل فلسطيني، وكل عربي، وكل إنسان حر في العالم مطالب اليوم بالمشاركة في هبة عربية عالمية واسعة لصد الجريمة الإسرائيلية البشعة والتي لم يسبق لها مثيل.
فلتتكاتف كل القوى لإفشال مشروع التهجير والتطهير العرقي والإبادة الجماعية.
(خاص "عروبة 22")