مشاهد تكرّس في نفس كلّ عربي مشاعر قلّة الحيلة والمهانة والهوان، لذا تضجّ مواقع التواصل الاجتماعي بكلمات الغضب المتفجّر الذي يعيد القضية الفلسطينية إلى الواجهة، ومعها يعيد كل عربي اجترار واقع جماعي محمّل بالخسائر والنكبات، وشعور عميق بالمهانة في زمن تبدو عدة عواصم عربية كالأطلال.
مشاهد القتل على المشاع التي تنقلها شاشات التلفاز بشكل لحظي في غزّة، لم تكن إلا تذكرة بزمن النكبة الذي تعيشه الشعوب العربية على مدار عقود، فصور الدمار التي نتابعها بقلوب دامية تعيد التذكير بواقع العرب في هذه الأيام الصعبة، فهل تختلف البيوت المدمّرة في غزّة عن مشاهد الخراب في سورية أو العراق أو اليمن أو ليبيا؟. ألا تبدو الصور الدامية كقدر يطارد كلّ عربي في كوابيسه، فلم تعد هناك مساحة للأحلام السعيدة في أيام العرب المعاصرة؟ لماذا تبدو هذه المنطقة وكأنها المستباح الوحيد في العالم؟
ما يحدث أثبت أنّ الأمّة العربية كيان واحد وشعب واحد وهَمّ واحد
يشعر المواطن العربي بالهوان، فما يجري من استباحة غزّة وأهلها، يتم تحت غطاء من الحماية الأمريكية الأوروبية على الصعيد الدولي، فأيّ محاولة لإدانة جرائم الحرب الإسرائيلية ستصطدم بالتحرّك الأمريكي، كما جرى مؤخرًا في مجلس الأمن عندما استخدمت واشنطن حقّ الفيتو ضد قرار بشأن الهدنة في غزة، فما يحدث يشعر العرب بأن لا وزن لهم دوليًا، أمّة متشرذمة تتداعى عليها الأمم، ففي وقت تتباكى الدول الغربية الكبرى على ما يجري في أوكرانيا، تصمّ الآذان عن جرائم الإبادة المنظّمة التي ترتكبها إسرائيل، بل تتدخل لحماية تل أبيب كأنّ دماء العرب لا ثمن لها.
ما يحدث في غزّة الآن هو درس جديد بكلفة دموية للعرب، فالتشرذم والانقسام والبحث عن المصالح الضيّقة لم يؤد بدول المنطقة إلا إلى طريق الخراب والدمار، تلك المشاهد التي باتت مألوفة للمواطن العربي بصورة ترهق الأعصاب وتستنزف الأرواح، وتكثّف الشعور بالضيق والحنق على ضياع المقدرات الهائلة للمنطقة العربية والتي لا تُستغل سياسيًا واقتصاديًا لخلق كرامة لدول العرب، بل على العكس يُرمى بها على أعتاب أعداء هذه الأمة الذين يستخدمون مقدراتها في استباحة شعوبها، فمصيرها يصنع هناك في العواصم الغربية التي تتعامل مع العالم العربي كمنطقة مستباحة بلا أسوار.
ورغم كل هذا الألم والإحباط والحزن الذي يعتصر قلوب الشعوب العربية على غزّة وما سبقها من مدن عربية مدمّرة، إلا أنّ هناك زهرة برية نبتت وسط الخراب، فما يحدث أثبت بلا أي افتعال أنّ الأمّة العربية كيان واحد، شعب واحد، وإن اختلفت أقاليمه، وأنّ الهمّ واحد وشجونه متقاربة، فالحزن العربي هو ذاته في الرباط والجزائر كما القاهرة وبغداد، فالشعوب أدركت أنّ عقود المهانة لا يمكن أن تزول إلا بالوحدة والعمل المشترك، وأنّ النكبة تكمن في بقاء أنظمة عربية تعمل لضمان بقائها في السلطة وتحصيل مكاسب لشبكة مصالحها المغلقة. إذن تعلّم الشعب العربي الدرس بثمن باهظ جدًا، فهل يبدأ في التطبيق وتسلّم الدفة للخروج من عصر النكبة الممتد؟
يمكن للشعوب العربية أن تغيّر المشهد إذا نظّمت صفوفها
إنّ التحديات صعبة والمشهد العربي دموي ويبعث على الإحباط، والتشرذم السياسي في أعلى مستوياته، وتكالب الأنظمة الدولية والإقليمية على المنطقة واضح لكل ذي عينين، لكن الشعوب العربية الآن حاضرة رغم إرادة تغييبها، ويمكن لها أن تغيّر المشهد إذا نظّمت صفوفها، هذا يستدعي دور النخبة التي يجب عليها أن تعمل على تقديم رؤى واقعية لتوحيد الجهود بين الأقطار العربية، أن تخلق خطابها وحراكها لخلق موقف شعبي يُفرض على الحكومات من أجل تبني موقف موحّد أمام التحرّكات الغربية المؤيّدة للعربدة الإسرائيلية.
هذا هو مصيرنا كلّنا يجب أن نعمل عليه، وعلى تحديد مساره، واحتكار قراره، رغم الصعاب والطريق الشاقة التي سنسير فيها، وإلا فالنكبة مستمرة!
(خاص "عروبة 22")