غيّبت فتنة "السلام الساداتي" الإرادة العربية الموحّدة، واستسلمت القيادات العربية لفكرة أن "99% من أوراق اللعبة في المنطقة في يد الولايات المتحدة"، حتى صار القرار العربي مرهونًا برضا واشنطن التي أصبحت مع الوقت تتحكّم في مقدرات الأمّة العربية ومصائرها، وترسّخت قناعة بأنه لن يصل رئيس عربي إلى سدة السلطة ولن يبقى فيها إلا بـ"موافقة أمريكية وعدم اعتراض إسرائيلي" على ما قال الدكتور مصطفى الفقي مدير مكتب الرئيس المصري الراحل حسني مبارك لجريدة "المصري اليوم" مطلع 2010، ومن يرفض من تلك الأنظمة الدخول تحت المظلة الأمريكية يُنزع منه الحكم نزعًا، وهو ما أثبت الواقع أنه وَهْم استسلمت له النخبة العربية، فلا أمريكا استطاعت الإطاحة ببشار الأسد، ولا هزّت عرش ملالي طهران، ولا أنقذت حكم حليفيها حسني مبارك في مصر وزين العابدين بن علي في تونس.
يجتهد الغرب الاستعماري في الحفاظ على كيان الدولة العبرية وتفوّقها على كل جيرانها العرب
منذ أن بدأ العدوان الهمجي الإسرائيلي على قطاع غزّة في أعقاب عملية "طوفان الأقصى" أصيب الشعب العربي بحالة من الدهشة بل الصدمة من رفع المسؤولين الأمريكيين وحلفائهم الغربيين شعار "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها"، وتبنيهم للسردية الصهيونية بكل ما تحمله من مغالطات وأكاذيب عما جرى يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول، ومنح الغرب الاحتلال الضوء الأخضر ليُكمل مجازره في حق أهلنا بقطاع غزة، مع تحريك أساطيله وقواته للحيلولة دون دخول أطراف أخرى للحرب.
زرع الغرب الاستعماري إسرائيل حتى تظلّ شوكة في خاصرة الأمّة العربية، تستنزف طاقتها وتعطّل تقدّمها وتثير في جنباتها الفتن، فكما قسّمت الدولة العبرية خريطة المنطقة، تسبّبت في شروخ عميقة ببنية الجسد العربي، وللأسف وجدت من بيننا من يساعدها في تحقيق مهامها.
يجتهد الكيان الصهيوني في أداء مهمته الوظيفية التي تمّ تأسيسه من أجلها، كما يجتهد الغرب الاستعماري بقيادة الولايات المتحدة - وريث الاستعمار القديم - في القيام بمهمته الوظيفية ليس في الحفاظ على كيان الدولة العبرية فحسب، بل وتفوّقها على كل جيرانها العرب عسكريًا وعلميًا وتكنولوجيًا.
"لو لم يكن هناك إسرائيل لاخترعنا إسرائيل" قالها الرئيس الأمريكي جو بايدن خلال زيارته الأخيرة إلى تل أبيب ليعلن دعمه وتأييده المطلق لعملياتها العسكرية ضد أهل غزّة، مكررًا بذلك ما طرحه عندما كان عضوًا بالكونجرس عن الحزب الديمقراطي قبل نحو 40 عامًا، إذ أكد حينها أنّ "إسرائيل أفضل استثمار قامت به الولايات المتحدة لحماية مصالحها في الشرق الأوسط".
لو سقطت غزّة سُيفتح الطريق أمام أعدائنا وحلفائهم لاستكمال مخطّطهم
إذن الانحياز الأمريكي الغربي للدولة العبرية، ليس جديدًا ولا مفاجئًا، فيجب أن لا نندهش من أن يتدخّل الحلف الاستعماري الغربي لإنقاذها عندما يستشعر أنّ هناك خطرًا يهدّد وجودها، ما يجب أن يدهشنا ويحزننا إلى حد البكاء دمًا لا دموعًا، هي ردود الفعل العربية تجاه ما جرى ويجري.
مساحة التمايز والاختلاف بين المواقف العربية منذ أن بدأ العدوان ليست واسعة، فما بين خطاب يدين ارتكاب "إسرائيل جرائم حرب بالمخالفة للقانون الدولي"، إلى إدانة "هجوم حماس البربري الشنيع على المدنيين"، وتفهّم ما تقوم به الدولة العبرية في إطار حقها المزعوم في الدفاع عن نفسها، سقطت الحكومات العربية جميعًا في اختبارات الحاضر والمستقبل لأنها استسلمت لوهم ضرورة رضا أمريكا عليها لتبقى في السلطة.
فشل العرب في إصدار بيان عن مجلس الجامعة العربية على المستوى الوزاري يؤكد "حق الفلسطينيين في مقاومة الاحتلال"، لأنّ منهم من أراد أن يساوي بين الجلاد والضحية، وفشلوا مجددًا عندما اجتمع بعضهم في قمة القاهرة للسلام دون أن ينسّقوا سلفًا مواقفهم ويحدّدوا أهدافهم ويجتمعوا على أجندة يقنعوا بها الحضور، وفشلوا ثالثًا في مجلس الأمن عندما أدانوا أمام العالم "قتل المدنيين من الطرفين"، دون أن يشرحوا بالتواريخ والأرقام كيف وصلت الأمور إلى هنا، ومن دفع بالغزاوية المحاصرين داخل سجن القطاع إلى الكفر بكل وعود ومبادرات السلام العبثية واتفاقات التطبيع الإبراهيمية، حتى تحوّل يأسهم إلى "طوفان" لا يفرّق بين مدني وعسكري، وفشلوا رابعًا عندما لم يلتئم جمعهم - حتى كتابة هذه السطور - في قمّة عربية تضع على أجندتها مواجهة العدوان واسترداد الحق العربي.
الوحدة القائمة على المصالح المشتركة أصبحت واجبًا وفريضةً على كل بلاد العرب
فصائل المقاومة الفلسطينية لا تدافع عن الحقوق الفلسطينية المسلوبة فحسب، بل تدافع عن الأمن القومي العربي. فغزّة هي خط الدفاع الأول عن دول المنطقة من المحيط إلى الخليج، لو سقطت وهُزمت سُيفتح الطريق أمام أعدائنا وحلفائهم لاستكمال مخطّطهم للاستيلاء على سيناء وغيرها من المدن العربية، وهو ما يجب أن تدركه أنظمة الحكم التي أخفقت في إدارة شؤون بلادها الداخلية وتعرّض الآن بمواقفها المتردّدة أمننا القومي للتهديد.
بنظرة على المستقبل، لا يمكن أن نحمي مصالحنا ونسترد حقوقنا، ونحن في تلك الحالة من التشظي والفرقة، لن نستطيع أن نخوض معارك التنمية والتقدّم، دون جبر للشروخ التي ضربت بنية النظام العربي.
ما يحدث أثبت باليقين أنّ الوحدة العربية، القائمة ليست فقط على وحدة التاريخ والجغرافيا واللغة والدين والثقافة، بل على المصالح المشتركة، أصبحت واجبًا وفريضةً على كل بلاد العرب في تلك اللحظة الكاشفة، فلا مستقبل لتلك الأمّة إن لم تُدرك ضرورة الوحدة.
إن لم نتضامن مع أنفسنا وندافع عن مصالحنا ونتمسّك بحقوقنا، فلن نجد من يتضامن معنا أو يناصرنا.
(خاص "عروبة 22")