إنّ الاحتلال هو الظهور الواقعي للشر، وغالبًا ما تنجح المشاريع الاستعمارية في الاحتلال، ذلك أنّ مَن يُقدِمُ على هذا الإخلال الشنيع في العلاقة بين الإنسان والإنسان هو الدول الكبرى المقتدرة، التي ترى أنّ لديها الحق في فرض هيمنتها على دول العالم كلّه. من هنا يجب أن نفهَمَ هواجس المحتَلِّ ونعقِلَ قدراتِه وإمكاناته قبل أن ننفعِلَ في مواجهته وتحديه بخططٍ قصيرة المدى، كما توصف في الاستراتيجيا السياسية.
الدول الغربية كانت ولا تزال تكره وجود اليهود في دولها، فجمعتهم في فلسطين
ما نعنيه بالخطط قصيرة المدى هو إبقاء شعار الانفعال الوجداني أقوى من شعار الفعل الوجودي؛ كأن تكون عبارة "يا ولَد يا ابن المقرودَة، بيع أُمَّكْ واشْري بارودة" الذي انطلقَ في ستينيات القرن الماضي أقدَرَ على الحلول في ذهنيتنا من رؤية بلادٍ عامرةٍ بمؤسسات ومشاريع تنموية واقتصادية هائلة، وفيها نهضة عمرانية واجتماعية وعلمية تتكَوَّن تباعًا، بشكلٍ متصاعد يمتِّن العلاقة بين الإنسان والأرض، أي بين الوطن والمواطن، وبالنتيجة يُنجِزُ الهُويَّة الحضارية الراهنةَ، المطلوبة لإحراز التقدّم والتحديث.
من حقنا الآن في ذروَة المشهد الدامي في فلسطين، أن نفكِّرَ في المواجهة الحقيقية مع العدو. هناك أيديولوجيا صهيونية قاتلة، تستغلُّ من خلالها الدولُ الغربيةُ فئةً من الناس هم اليهود، كانت تكرَهُ وجودهم في دولها ولا زالت، فجمعتهم في فلسطين، وقتلت ولا تزال كثيرًا من أصحاب الأرض لتُحِلَّهم مكانهم، كما فعلت بسكان أميركا وأستراليا وغيرها من بلاد الله الواسعة. لا حاجةَ لنا لوصف ما تقوم به الدول الغربية من دعمٍ سافرٍ للإجرام، فها هي إدارتها السياسية والعسكرية تقف دون أي رادِعٍ لدعم الحرب على غزّة، ولتهجير الفلسطينيين إلى سيناء، وبالنتيجة افتعال الحروب، أي وَقْعَنةُ الشر؛ جعْلُ الشرِّ حدثًا قائمًا، لإحراز ربحٍ مادي غير محدود في التجارة الدولية بأنواعها.
أمام هذا الطغيان للشر الأخلاقي الممنهج، لا بد أن نبني التصوُّر الأخلاقيَّ الناجِعَ للخير، أي مأسَسَةُ الخير الأخلاقي في المجتمع، وبناء الطاقات العلمية والتنميوية الفاعلة وإنهاض الإنسان في البلاد. إنّ العمل في الشَّعب يكون في سبيل بناء الشعب الحقيقي، أي الإنسان الحقيقي القادر على التواصل والإخاء، وعلى الإنتاج والبناء، وعلى الإبداع والفَهْم.
ليست المسألةُ طرحًا رومنسيًّا، كأن أَحملَ وردةً أمام الدم المسفوك على الأرض، بل إن ما يستدعي النَّظَر هو القدرة على الفهم، أي الصبْرُ الإبداعي عند الدول، ببناء الذات حتى نتمكَّن من فهم علاقتها بالآخر، كيف يمكن أن تكون! هل يُعْقَل أن لا نُفكِّرَ في ذهنية العدو التي صنعت "ميركافا، قنابل إسفنجية، قنابل زلزالية، قنابل فسفورية،...إلخ؟" ألا يستدعي استسهال قَتْل الأطفال والنساء والناس الآمنين إعادةَ النَّظَر في مفهوم النَّفس والجهاد والعقل والحياة عندنا؟! ما معنى الوطَن؟
الوطنُ في اللغة العربية هو "محَلُّ الإنسان، الذي يوجَد فيه لغاية، والموطِن أول الغاية"، لذا إن المقاومَة في سبيل الوطن، هي وسيلةٌ لتحصيل استقرار الإنسان في محلٍّ ينطلق منه لغايةٍ. فالمقاومة يجب أن تكون ذروة التفكير بتقديم الإنسانِ في الإنسانية، على أنه حاجةٌ لا يمكن الاعتداء عليها، أي لا يمكِنُ لإنسانٍ آخر أن يمارِسَ عليها الشرَّ والأذى. إذًا المقاومةُ هي ثقافةُ الخيرِ الأعلى في مواجهة شرِّ الشديد في الحدث القائم.
من هنا، إن المقاومةَ لا يمكن أن تكونَ سلاحًا وجسدًا فحسب، بل يجب أن تكون عقلًا قادرًا على فهم إمكانِ الوطَنِ، أي إمكان اتخاذ أرضٍ وطنًا أو استعادتِها لتحقيق استقرار الإنسان، فالهَدَفُ هو الإنسان على قيد الحياة، نعم... الإنسانُ كائنٌ حي. ولأن الحياة هي مجالُ العيش، فإن بناءَ مجتمعات حُرَّةٍ هو الذي يحرِّرُ الأوطان من أيدي الأشرار. فالأرضُ عندما تكون محتلةً لا تُصبِحُ وطنًا، والإنسانُ الذي فيها هو الكائنُ الوحشُ الذي حجَبَ الخيرَ بالشرِّ، ولا يمكن استعادة الأرضِ منه إلا بتكثير الخير المحيط، حتى ينبو الشرُّ فلا يجِدُ مكانًا للإقامة.
لا شيء يقضي على "إسرائيل" سوى بناء الدولة العربية الحرّة التنموية المتعلّمة
لا معنى لأن أنتَحِرَ إذا كان بإمكاني أن أعيش بكرامةٍ وأنا أسيرُ على دَرب الحق. يجب أن يعيش الإنسانُ في سبيل القضيَّة، حان الوقتُ لتحدي آلة الموتِ الصهيونية وإنسانَ القتْلِ الغربيِّ بإنسانِ الحياة والعيش الكريم، هذا الذي يبني ويعمَل ويفرح فينزع فتيلَ القنبلة مِن يد العدو، ويُفسِدُ عليه إمكان ممارسةِ الشر، فتتلاشى مفاعيل الاحتلال.
لا شيء يقضي على "إسرائيل" سوى بناء الدولة العربية الحرّة التنموية المتعلّمة، المشاركة في الثقافة الإنسانية المتقدّمة، القادرة على تقديم شيءٍ يُشَرْعِنُ وجودَها الكوني من جديد. أما مواجهة الرصاص الفتَّاك بالرصاص العادي، فتلكَ ليست سوى حالُ الرضى والتسليم بشريعة الغاب، وإظهار صاحِب الحق كأنه ضحيةٌ دائمةٌ لظُلم القدَر. فماذا تنفعُ عبارة "الموت لأمريكا" طالما أنّ الموت الحقيقي هو أطفال غزّة بينَ الركام؟!
إن النِّضال العربي الجدّيد يقتضي وعيَ الإنسان العربي الجديد، فقبلَ الانفعال بالوجود يجب أن نفعَلَ الوجود، أي أن ننجِزَ الذكاءَ الوجودي الذي يمكِّنُننا من تحويل أراضينا إلى أوطانٍ منتجةٍ، لا يمكن أن يفارِقَها الإنسان.
(خاص "عروبة 22")