السبب الأمريكي المعلن لحرمان أوغندا وأفريقيا الوسطي والجابون والنيجر من الدعم الأمريكي هو "عدم احترامهم لحقوق الإنسان"، وهي خطوة تم تنفيذها مع مصر بخصم جزء من المساعدات الاقتصادية تحت العنوان ذاته.
واللافت هنا أنه رغم السجل السيّء لهذه الدول وغيرها في مجالات الحريات العامة واحترام حقوق الإنسان أو ممارسة الحكم الرشيد، لكنها على الأقل لم تمارس عمليات الإبادة الجماعية التي نشهدها حاليًا ضد الآلاف من البشر كما تفعل إسرائيل بمناهج أقل ما يقال عنها إنها همجية.
الواقع أسقط أقنعة سميكة كان يتغطى بها الغرب دفاعًا عما أسماه القيم والمبادئ الإنسانية
نحن أمام حالة أكبر وأضخم من ممارسة إزدواج المعايير، إننا أمام حالة تبجح وتوحّش غير مسبوقة في الخطاب الغربي عمومًا والأمريكي خصوصًا، بالتغاضي المتعمّد عن انتهاكات حقوق الإنسان التي تمارسها إسرائيل كدولة احتلال ضد الفلسطنيين على كامل التراب الفلسطيني التاريخي، وهي حالة مشهودة تابعها العالم في القدس وغزّة والشيخ جراح وغيرها وذلك قبل هجوم "حماس" على مستوطنات غلاف غزّة.
وربما إذا لم يكن حجم انتهاك حقوق الإنسان بهذا المستوى للفلسطنيين لما كان هذا الحجم من الغضب الفلسطيني الذي تمّت مراكمته عبر السنين، وربما لم تكن "حماس" لتقدم على أسر مدنيين إسرائيلين كانتقام من الممارسات الإسرائيلية الوحشية.
الموقف الغربي في تقديم دعم مطلق وفوري لإسرائيل في انتهاك حقوق الإنسان الفلسطيني بمزاعم التخلّص من "حماس" بعد ٧ أكتوبر/تشرين الأول، وأيضًا دعمها في عدم وقف إطلاق النار لاعتبارات الهدنة الإنسانية، يعكس توحّشًا ولا إنسانية من رموز عالم يطلقون عليه "حرًا"، والواقع أسقط أقنعة سميكة كان يتغطى بها الغرب دفاعًا عما أسماه القيم والمبادئ الإنسانية، من احترام لحقوق الإنسان، واحترام مبادئ القانون الدولي في الأمن الإنساني خلال زمن الحرب بعدم الاعتداء على المدنيين.
لقد لخّص ملك الأردن عبدلله الثاني الموقف الراهن بقول، أُحييه عليه واتفق معه فيه، عندما قال إنّ أهمية حياة البشر على هذه الأرض أصبحت بالمنظور الغربي غير متساوية، فحياة الفلسطينيين أقل أهمية من حياة الإسرائيليين، ومناصرة تطبيق حقوق الإنسان وتطبيق محددات القانون الدولي الإنساني أصبح في عالم اليوم انتقائيًا، فهو يطبّق طبقًا للأعراق والألوان والأديان، وليس طبقًا لمحددات التحضّر والإنسانية التي توافق عليها العالم بعد حربين عالميّتين.
الغرب يوظّف الحريات والحقوق ضدنا لمصالح جيوسياسية ولضرورات التنافس الدولي وللاستيلاء على الموارد الطبيعية
وهو أمر كما نشهده في غزّة حاليًا، شهدناه في التعامل المتحضّر مع المهاجرين من أوكرانيا مقارنةً بالتعامل مع اللاجئين السوريين، حينما أفصحت الميديا الغربية أنّ الإسناد الإنساني للمهاجرين الأوكرانيين يتم ليس على أُسُس إنسانية ولكن على أُسُس عرقية، فيما يبدو لنا أنها قيم راسخة في الذهنية الغربية ولكن مسكوت عنها.
لقد افتضحت مصداقية القيم الغربية المتعلقة باحترام حقوق الإنسان على أساس مطلق وغير متحيّز، وتبيّن لنا، نحن مواطني جنوب الكرة الأرضية، أنّ مسألتَيّ الحريات الإنسانية والحقوق المدنية سردية وإن كانت حق فإنه يتم توظيفها من الغرب ضدنا مرّة لمصالح جيوسياسية، وأخرى لضرورات التنافس الدولي، وثالثة للاستيلاء على الموارد الطبيعية بلا عوائد عادلة كما يجري بشكل يصل لحد ممارسة السرقة في أفريقيا خصوصًا.
إنّ الواقع الراهن الذي نعيش فيه ولا يحترم أقل حقوق البشر في الأمن الإنساني، يفرض علينا مراجعات فكرية أساسية بشأن موقفنا من العالم الغربي، وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية، كعالم حرّ ومتحضّر يحترم القيم الإنسانية.
وتطلّب هذه المراجعات تدشين نقاش مفتوح بشأن محاولة تطبيق القيم الإنسانية المتحضّرة بروافع بديلة عن العالم الغربي الذي فقد مصداقيّته على كل صعيد إنساني. علينا أن نؤسّس منصات وآليات المناصرة الخاصة بنا للضغط لتطبيق القيم الإنسانية المتحضّرة، وبطبيعة الحال تتطلّب هذه الأهداف في تقديري؛ أولًا، اضطلاع النخب العربية بمهام خلق منصات المناصرة المطلوبة للفلسطنيين في هذه المرحلة والمتخطية لمسألتَيّ التظاهر والمساعدات الإنسانية رغم أهميّتهما.
كما تتطلّب ثانيًا، خلق منصات التشبيك مع النخب الأفريقية ودول أمريكا اللاتينية والهند بهدف خلق منصات المناصرة والضغط لكل بلد يتم فيه انتهاك لحقوق الإنسان ويسعى لتحوّل ديمقراطي وحكم رشيد في جنوب الكرة الأرضية.
لقد سقط ما يُسمّى بالعالم الحرّ يا سادة، وعلينا أن نبني عالمنا الخاص بنا، بسواعدنا هذه المرّة وبقيمنا نحن، وبإمكانياتنا مهما كانت محدودة.
(خاص "عروبة 22")