وجهات نظر

جيل "الطوفان"

كل حدث كبير يكون له جيل شاهد عليه ويتأثّر به على مدار حياته، بعض الأحداث الكبرى يولّد إحباطات والبعض الآخر يرفع سقف الآمال.

جيل

جيل كامل على اتساع الوطن العربي كلّه كسرته هزيمة يونيو ١٩٦٧، فمنه مَن غيّر ايديولوچيته ١٨٠ درجة فتحوّل إلى الليبرالية أو إلى الإسلام السياسي، ومنه مَن أدار ظهره للعروبة، والقليل منه أدار ظهره للعالم وآثر الانكفاء على نفسه، لكنّ جزءًا معتبرًا من هذا الجيل حمل رسالة تحرير الأرض وتحويل الهزيمة إلى نصر فبدأَت حرب الاستنزاف بعد أسابيع قليلة من النكسة ثم كان العبور العظيم في السادس من أكتوبر/تشرين الأول ١٩٧٣. وفي لبنان تفتّح وعي جيل من أبنائه في ظل احتلال إسرائيل للجنوب، ومن رحم هذا الواقع ولد "حزب الله" الذي قاد حركة المقاومة المسلّحة ضد الاحتلال وأجبرت ضرباته جيش الاحتلال على الانسحاب من الشريط الحدودي في عام ٢٠٠٠.

وها هي عملية "طوفان الأقصى" تأتي لتوقظ وعي جيل عربي كامل بأنّ القضية الفلسطينية هي قضيّتهم المركزية وأنه لا سلام ولا استقرار في المنطقة ما دام الاحتلال باقيًا.

لم أصدّق أذنّي عندما قالت لي حفيدتي ذات الثمانية أعوام إنها قرَرَت مقاطعة منتجات "ماكدونالدز" التي تدمنها لأنّ إسرائيل تقتل الأطفال الفلسطينيين. فهذه الصغيرة مثلها مثل الآلاف من بنات وأبناء جيلها يعيشون داخل فقاعات بلّورية من صنع التعليم الأجنبي ووسائل التواصل الاجتماعي والمناخ العام الذي يرفع شعار القُطرية أولًا، ولا أظنّها سمعَت يومًا عن فلسطين وهذا تقصير أعترف أننا نتحمّل مسؤوليته، ولا تعلم شيئًا بالتأكيد عن تاريخ الصراع العربي-الإسرائيلي.

فرضَت القضية الفلسطينية نفسها على المتعاطفين وعلى غير المتعاطفين على حدٍ سواء

لكن مفردات جديدة دخَلَت قاموسها مع الاهتمام المصري العام بغزّة وتطوّرات العدوان الإجرامي على أهلها، وهكذا صارت حفيدتي تعرف أنّ إسرائيل سلطة احتلال لم تترك جريمةً من جرائم الحرب إلا ارتكبَتها، وفهمَت بشكل مبسّط معنى جريمة الحرب، وصارت تدرك أنّ المقاطعة سلاح شعبي لمعاقبة الجهات الداعمة لإسرائيل.

في الأحوال الطبيعية لا يحتاج الأطفال في مثل عمرها لهذا النوع من المعلومات، لكن جنون الحرب الإسرائيلية لا يعترف بالطفولة. هذه اللقطة على المستوى الشخصي توجد مثلها عشرات اللقطات الأخرى على المستوى العام.

فهؤلاء الطلاب الجامعيون الذين كانوا لا يعلمون إلا النزر اليسير جدًا عن القضية الفلسطينية بلغ اهتمامهم بها مداه، أسئلتهم تدور حولها، ومساهماتهم البحثية تنصّب عليها، ودورهم في فضح جرائم الاحتلال ونشر ڤيديوهاتها والتصدّي للحملات المضادة دور معتبر.

أما مبادرات المجتمع المدني التي تشتغل على توعية أبناء هذا الجيل بالقضية الفلسطينية، فإنها مبتكرة وتبعث على التفاؤل. فهذه إحدى المكتبات العامة تخصّص يومًا للتعريف بفلسطين، يرسم فيه الأطفال عَلَمها وخريطتها ويتعرَفون على مواقع مدنها وبلداتها بأسمائها العربية لا الإسرائيلية، ويستمعون إلى سرد مختصر لتاريخها. وعلى الهامش يُقام معرض للصور الفوتوغرافية والمشغولات اليدوية والأطعمة الفلسطينية، لتشبيك الماضي بالحاضر.

وتلك منظّمة غير حكومية، تشارك في تجهيز المساعدات المتجهّة لغزّة، تعلن عن حاجتها لمتطوّعين من الجنسين، فإذا بتجاوب رائع مع دعوتها لا سيما من صغار السن للمشاركة في التبرّع والتغليف والتعبئة، وفي الأثناء يعرفون أكثر عن حصار غزّة الذي حوّلها الاحتلال منذ سبعة عشر عامًا إلى سجن كبير.

جاء "طوفان الأقصى" ليصحّح المفاهيم ويصوّب اتجاه البوصلة ويعيد الأمور إلى نصابها

ندوات وحلقات نقاشية وعروض كتب ومعارض للفنون التشكيلية تتم في أطر مختلفة وتمثّل جزءًا من حركة ثقافية أكبر تعيد القضية الفلسطينية إلى بؤرة الضوء، فالخطر الأكبر الذي يتهدّد أي قضية هو خطر النسيان. وما يحدث في مصر يحدث بطول الوطن العربي كلّه، فلقد فرضَت القضية نفسها على المتعاطفين وعلى غير المتعاطفين على حدٍ سواء.

لم يساورني الشك يومًا في وعي أبناء فلسطين بقضيّتهم، فالسياسة للفلسطيني مثلها مثل حليب الأم، لكن القلق كلّه كان على وعي الأجيال العربية الجديدة التي نشأَت في ظل اتفاقيات السلام الإبراهيمي، والتطبيع المجاني، وإعادة ترتيب مصادر تهديد الأمن القومي العربي، وسرديات الشرق الأوسط الجديد والكبير والمختلف.

لكن جاء "طوفان الأقصى" ليصحّح المفاهيم، ويصوّب اتجاه البوصلة، ويعيد الأمور إلى نصابها، ويجعل في كل بيت عربي طفل/طفلة يشارك في مقاطعة منتجات "ماكدونالدز" ويعي أنّ إسرائيل كيان محتّل.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن