تقدير موقف

هل تُنهي معركة دعم غزة في أمريكا أسطورة "البقرة المقدّسة"؟

لعقود طويلة، تعاملت كافة مؤسسات الدولة الأمريكية مع الكيان الصهيوني على أنه "بقرة مقدّسة" لا يحق لأحد انتقاده، ولو تلميحًا، وإلا ستلاحقه على الفور اتهامات "معاداة السامية" والتعاطف مع "الإرهاب" وينتهي تمامًا مستقبله السياسي أو المهني. هذه المنظومة الرسمية تهاوت تقريبًا مع اندلاع حرب الإبادة الجماعية التي يشنّها جيش الاحتلال ضد الفلسطينيين في غزّة منذ أكثر من شهر.

هل تُنهي معركة دعم غزة في أمريكا أسطورة

كان من اللافت أن يشارك يوم السبت الماضي بالعاصمة واشنطن نحو نصف مليون أمريكي في مظاهرة مندّدة باستمرار العدون الإسرائيلي على قطاع غزّة، فيما وصفه المنظّمون بأكبر احتجاج مؤيّد لفلسطين في تاريخ الولايات المتحدة.

وبالتوزاي شهدت أيضًا مدن أمريكية كبرى، من أقصى الشرق في ولاية نيويورك إلى أقصى الغرب في سان فرانسيسكو بولاية كاليفورينا، مظاهرات مماثلة، شارك بها عشرات الألوف، غالبيّتهم ليسوا من الأمريكيين العرب أو المسلمين كما يروّج اليمين الأمريكي، إذ ضمّت الاحتجاجات شباب أمريكي أبيض من طلبة الجامعات والكثير من "الملوّنين"، أي أصحاب البشرات السمراء وأولئك المنحدرون من أمريكا اللاتينية والمعروفون في الولايات المتحدة بـ"الهيسبانك".

حجم القتل في الحرب الدائرة الآن في غزّة جعل الاحتجاجات أكثر قوةً وغضبًا وتأثيرًا في فئات المجتمع الأمريكي

التحوّل حقيقي وعميق ومهم في الدولة الأكثر دعمًا للكيان الصهيوني منذ 1948، والتي يتفاخر قادتها، بدءًا من الرئيس الأمريكي ومرورا بوزير خارجيته وصولا لغالبية أعضاء الكونجرس من نواب وشيوخ، أنهم "صهاينة" يدعمون ذلك الكيان ظالمًا كان أو مظلومًا، بناءً على سردية المظلومية التاريخية وما تعرّض له اليهود على يد النازي إبان الحرب العالمية الثانية.

بالطبع هذا الإدراك المتنامي في أوساط النخبة الأمريكية، وكذلك في الأوساط الشعبية، بعدالة القضية الفلسطينية لم يبدأ بحرب غزّة الأخيرة، حيث أنه قد سبقتها جولات حروب مماثلة في السنوات الأخيرة قتل فيها جيش الاحتلال آلاف الفلسطينيين. لكن حجم القتل في الحرب الدائرة الآن في غزّة واتساعه، على مدار الساعة واليوم، بلا أي استثناءات لمدارس أو مستشفيات أو مخيمات إيواء أقامتها الأمم المتحدة، والعدد الهائل من الأطفال الأبرياء والنساء الذين يموتون بقنابل تزن الواحدة منها ألف كيلوجرام، جعل الاحتجاجات هذه المرّة أكثر قوةً وغضبًا وتأثيرًا في فئات المجتمع الأمريكي.

وما زاد من أهمية هذه التظاهرات والاحتجاجات الدائرة في الولايات المتحدة هي أنها تسبق بشهور انطلاق حملات الدعاية للانتخابات الرئاسية المقرّر عقدها في نوفمبر/تشرين الثاني من العام المقبل، والتي ستشهد غالبًا جولة منافسة شرسة بين "كهلين"، الأول؛ الرئيس الديمقراطي الحالي جو بايدن، والثاني؛ الرئيس السابق الجمهوري المختل الشعبوي دونالد ترامب.

وبينما تبنّى ترامب ممثلًا لجماعات اليمين الأمريكي من جمهوريين ومتطرّفين يمينيين عنصريين الموقف المتوقّع في الدعم الأعمى لإسرائيل، وتهديد الجامعات التي تشهد مظاهرات داعمة لفلسطين بقطع التمويل الحكومي عنها، إلى جانب المطالبة بإلغاء التأشيرات الخاصة بالطلبة الأجانب ممن يشاركون في المظاهرات، فإنّ المأزق الحقيقي يواجهه بايدن لأن من يتظاهرون في شوارع المدن الأمريكية هم من أنصار حزبه الديمقراطي، والذين هدّدوه صراحةً أن موقفه القاطع في رفض مطالبة إسرائيل بوقف إطلاق النار سيدفعهم إلى عدم التصويت لصالحه في انتخابات العام المقبل.

هم لن يصوّتوا بالطبع لصالح ترامب، ولكن امتناع الشباب الأمريكي والناخبين من أصول ملوّنة من الذهاب إلى صناديق الاقتراع سيعني حتمًا التقليل من فرص بايدن في الفوز، في وقت كانت تُعد فرصه متساوية، إن لم تكن أقل، في البقاء بمنصبه لأربع سنوات إضافية بسبب الانقسام القائم في المجتمع الأمريكي عمومًا بين المحافظين والليبراليين بشأن العديد من القضايا المحلية، كحيازة الأسلحة والإجهاض والإنفاق الحكومي على البرامج الاجتماعية لحماية الفقراء، إلى جانب تقدّمه في العمر وشك الكثير من الأمريكيين في قدرته على الوفاء بمهامه.

ورغم هذا التغيّر الكبير والملحوظ في موقف الرأي العام الأمريكي، على الأقل من ناحية بروز أصوات مؤيّدة لفلسطين بشكل واضح وغير مسبوق، فإنّ المعركة مع المؤسسات الحاكمة في أمريكا ومن يسيطرون على وسائل الإعلام التي تسعى لصياغة الرأي العام ستبقى شديدة الشراسة والضراوة. فالعدد القليل من أعضاء مجلس النواب (18 من بين 435) الذي تجرّأ ورفض القرار الذي صدر بعد أيام من اندلاع الحرب بإعلان الدعم المطلق للكيان الصهيوني و"حقّه في الدفاع عن النفس"، يتعرض لهجوم شرس ومطالبات بإسقاط عضويتهم في المجلس، وعلى رأسهم بالطبع النائبة الأمريكية من أصل فلسطيني، رشيدة طليب، وكذلك إلهان عمر وإلكسندرا كورتيز.

النائبة طليب قامت بتسجيل شريط فيديو اتّهمت فيه بايدن بدعم "الإبادة الجماعية" للفلسطينيين"، وحذّرته من أنّ الاستمرار في سياسته الحالية سيعني ببساطة فقدان أصوات العرب والمسلمين الأمريكيين في الانتخابات المقبلة، خاصة في ولاية متأرجحة هامة مثل ميتشجين التي تمثّلها.

مؤسسات أمريكية ثقافية وفنية ألغت محاضرات ومناسبات لأنّ المتحدثين الرئيسيين فيها لهم مواقف تنتقد الحرب في غزّة

وفي الوقت نفسه، فإنّ أيًا من أعضاء مجلس الشيوخ المائة، حتى العضو التقدمي المعروف بمواقفه المنحازة للحق الفلسطيني بيرني ساندرز، لم يطالب بوقف فوري لإطلاق النار في غزّة، وهو ما يُعد مطلبًا يرتقي للخيانة في أوساط المؤسسة الرسمية الحاكمة في أمريكا بزعم أنّ الكيان الصهيوني لم يُنهِ بعد انتقامه من "حماس".

وبجانب التهديدات للأقلية من النواب الأمريكيين الداعمين للإنسانية وضرورة وقف جنون القتل الجماعي الذي ينفّذه جيش الاحتلال في غزّة، يتعرّض الكثير من الصحفيين العاملين في المؤسسات الكبرى لتهديدات مباشرة بالفصل أو الإيقاف عن العمل لمجرّد كتابة تغريدة على "إكس" أو "فيسبوك" تطالب بوقف الحرب، أو حتى إعادة مشاركة صورة أو عمل إشارة إعجاب لمنشورات الآخرين.

وكان آخر الضحايا الكاتبة صاحبة الجوائز في مجلة "نيويورك تايمز"، جاسمين هيوز، والتي تم إجبارها على الاستقالة قبل أيام بعد توقيعها لبيان يطالب بوقف الحرب. كما قامت مؤسسات أمريكية ثقافية وفنية بإلغاء محاضرات ومناسبات كان من المقرّر تنظيمها لأنّ المتحدثين الرئيسيين فيها كانت لهم مواقف معلنة تنتقد الحرب في غزّة.

وفي ظلّ أجواء الاستقطاب الحالية، فإنّ كل شعار أو يافطة يتم رفعها في المظاهرات المؤيّدة لفلسطين في المدن والجامعات الأمريكية تخضع للرقابة اللصيقة من قبل اللوبي الأمريكي الصهيوني. فرفع يافطة نصّها "من البحر إلى النهر.. الحرية لفلسطين" تعني بالنسبة إليهم إنكار حق الكيان الصهيوني في الوجود والاتهام فورًا بمعاداة السامية، والترحّم على "شهداء فلسطين" يعني دعم الإرهاب وتنظيم "حماس" الذي يتم وصفه في دوائرهم بأنه أسوأ من "داعش".

كلمات أوباما، حتى لو بدت لنا مائعة، فإنها تمثّل تغيّـرًا غير مسبوق في الواقع السياسي الأمريكي

وحتى الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما كان عليه الإمساك بالعصا من المنتصف والحرص التام في تصريحاته التي تسبّبت في تعرضه لهجوم من كبير من اليمين الأمريكي لمجرد قوله إنه "على الأمريكيين النظر إلى الحقيقة الكاملة لما يجري في فلسطين".

أوباما صدم اللوبي الصهيوني أيضًا عندما أشار إلى أنه مثلما يجب إدانة هجوم "حماس" وقتل المدنيين في المستعمرات القريبة من غزّة، فإنه يجب أيضًا إدراك أنّ "الاحتلال وما يتعرّض له الفلسطينيون أمر لا يمكن تحمله"، لافتًا إلى أنه "مقابل انتشار معاداة السامية، فإنّ الحقيقة أيضًا هي أنه هناك أناس يموتون الآن من دون أن يكون لهم صلة بما قامت به حماس".

كلمات أوباما، حتى لو بدت لنا نحن العرب مائعة وغير كافية، فإنها تمثّل تغيّرًا غير مسبوق في الواقع السياسي الأمريكي، وربما البداية، مع تصاعد الغضب في كل أرجاء العالم بما في ذلك أوروبا وأمريكا اللاتينية، لدفع إدارة بايدن الضعيفة نحو إجبار الكيان المحتل على وقف حرب الإبادة التي يشنّها بلا هوادة ضد المدنيين في غزّة. ربما ليس غدًا، ولكن قريبًا جدًا.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن