شهدت أسعار النفط في الآونة الأخيرة تذبذبات مستمرة نتيجةً للعديد من العوامل التي سبق وأن أشرنا إليها، مما أدى من جديد إلى بروز بعض التساؤلات حول تأثير هذه التذبذبات على الاقتصادات المرتبطة بالنفط، بما فيها الاقتصادات الخليجية، خصوصاً وأن الاقتصاد العالمي ما زال يعاني من بعض تبعات «كوفيد-19» ومن الحرب الروسية الأوكرانية التي ما زالت تُلقي بظلالها القاتمة على الأوضاع بشكل عام.
وسيقتصر حديثنا هنا على تداعيات ذلك على اقتصادات دول مجلس التعاون الخليجي، والتي صدرت عنها مؤخراً العديد من البيانات التي يمكن الاستناد إليها لتقييم الأوضاع والنظر في آفاقها المستقبلية القريبة.
فهذه البيانات تشير بوضوح إلى أن دول المجلس استفادت كثيراً من ارتفاعات أسعار النفط في العامين الماضيين، فتخطت جميعُها تقريباً عجوزات الموازنات السنوية، بل حققت فوائض جيدةً، كما كان متوقعاً، وهو ما أدى إلى زيادة معدلات الإنفاق وتنشيط الأوضاع الاقتصادية وتنفيذ المزيد من المشاريع الحيوية ذات الأبعاد المستقبلية، كمشاريع الطاقة المتجددة وبعض الصناعات الحديثة وصناعة النقل وتدعيم الأنشطة المالية والتجارية، مما ساهم في جذب المزيد من الاستثمارات المحلية والأجنبية.
وهذه التطورات في المجمل ستكون لها نتائج إيجابية على إحداث المزيد من التغيرات الهيكلية في الناتج المحلي الإجمالي باتجاه زيادة مساهمة القطاعات غير النفطية وتقليل الاعتماد على النفط، إذ حدث تحول مهم في الأعوام الثلاثة الماضية يكمن في انضمام المزيد من دول المجلس إلى مجموعة الدول التي تشكل القطاعات غير النفطية النسبة الأكبر من ناتجها المحلي، وهو تطور مهم بحكم الثقل الاقتصادي للدول التي أحدثت مثل هذا التغير، حيث أصبح القطاع غير النفطي يشكل أغلبيةَ مكونات الناتج المحلي الخليجي لدول المجلس مجتمعةً، ويعتبر ذلك أحد أهم التغيرات الناتجة عن الارتفاع الأخير في عائدات النفط والتي استغلتها بعض دول المجلس لإحداث المزيد من التنوع في اقتصاداتها.
ومع أن مثل هذا النمو المتسارع يؤدي في معظم الأحيان إلى ارتفاع كبير في معدلات التضخم، فإن البيانات المتوفرة لدول المجلس تشير إلى أن معدلات التضخم ظلت ضمن المستويات المقبولة ولم تتجاوز في كافة الدول الخليجية نسبة 4% وتراوحت بين 3 و3.5%، إذ أن أسعار الطاقة المنخفضة نسبياً، مقارنة بالبلدان المتقدمة، ساعدت في لجم ارتفاع الأسعار، وذلك باستثناء أسعار الواردات التي تسببت في زيادة نسب التضخم المستورد.
وكما هو ملاحظ، فقد تدنت أسعار النفط منذ بداية هذا العام بنسبة 20% مما ستترتب عليه بعض التداعيات بسبب الانخفاض المتوازي للعائدات النفطية، إلا أن بقاء الأسعار عند معدلاتها الحالية سوف لن يكون له أية آثار سلبية ذات أهمية على الاقتصادات الخليجية، إذ أن زخم النمو الذي يتراوح بين 4 و5% سيستمر هذا العام والعام المقبل، لكن فوائض الموازنات السنوية ستتقلص في الدول ذات العوائد المرتفعة، في حين ستتمكن الدول ذات العائدات الأقل من التحكم في العجز المتوقع حدوثه إذا بقيت أسعار النفط عند معدلاتها الحالية، وهو أمر ممكن بفضل التنسيق والتكاتف القوي بين دول «أوبك+» التي تبذل جهوداً كبيرة للمحافظة على استقرار أسعار النفط من خلال توازن العرض والطلب في الأسواق العالمية.
لذلك يتوقع أن تحقق دول المجلس في هذا العام، مرة أخرى، واحداً من أعلى معدلات النمو في العالم وأن تتمكن من استقطاب المزيد من رؤوس الأموال وتعمد إلى تنفيذ مشاريع تنموية بأبعاد مستقبلية تساهم في التنوع الاقتصادي، مع إمكانية كبيرة في تراجع معدلات التضخم بفضل تحسن سلاسل التوريد وانخفاض تكاليف النقل الناجم عن انخفاض أسعار النفط، مما سيعزز الأوضاع الاقتصادية في دول المجلس، والتي ستشهد المزيد من الانتعاش والنمو في العام الجاري.
(الاتحاد)