إعادة طرح القضية الفلسطينية على قمّة أجندة السياسة الدولية حاليًا، لم يتم للشعور الإنساني الفياض عند القوى العظمى، ولا لاهتمام منظمات حقوق الإنسان الغربية بمعاناة الفلسطينيين اليومية، ولا لنزعة أخلاقية في دوائر صنع القرار الأمريكي تتعاطف مع ظروف أبناء الضفة والقطاع غير الإنسانية، فما حدث نتيجة إصرار أبناء غزّة أنفسهم على تحصيل حقوقهم المهدرة، والقتال دفاعًا عن أرضهم المستباحة من العصابات الصهيونية وسط صمت دولي. ما تمّ يعود الفضل فيه لحديث السلاح، وفرض القضية بالقوّة.
لا يمكن والوضع كذلك، أن نقنع الأجيال العربية الشابة بأنّ مسار السلام الذي يُعاد الحديث عنه الآن بشكل هلامي، ممكن التحقق بعد الهدوء على الجبهة، فخلال عقود تحوّل هذا الحديث إلى السلاح الأوّل للقضاء على القضية الفلسطينية وتفريغها من مضمونها، بل استخدم في التغطية على الجرائم الإسرائيلية وعمليات الاستيطان الصهيوني على الأرض العربية التي يتم تهويدها على قدم وساق، في ظل استخدام الإدارة الأمريكية لحديث السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين كعلكة تلوكها تزجية للوقت حتى تتمكّن العصابات الصهيونية من ابتلاع الأرض العربية وهضمها.
أي حديث عن السلام يصدر من واشنطن، هو والعدم سواء، فكيف نصدق دولة تستخدم حق النقض (الفيتو) بشكل دوري لحماية العربدة الإسرائيلية، وتضمن منع مجلس الأمن من إصدار قرارات ملزمة ضد تل أبيب، ولم تكن عرقلة واشنطن لمحاولة مجلس الأمن إصدار قرار بهدنة إنسانية في الأراضي المحتلة، أكتوبر الماضي، إلا الفصل الجديد من فصول متعددة لتلاعب واشنطن بالقوانين الدولية لصالح ربيبتها الصهيونية.
على الدبلوماسية العربية أن تتحرّك لترجمة ما حقّقته المقاومة على الأرض إلى واقع
الشعوب العربية ليست مغفّلة لكي تتجاهل حقيقة ما يجري على الساحة الدولية، وكيفية التعامل معها، فالحقوق تُنتزع ولا تُمنح مجانًا، فمنظومة الأخلاق العالمية التي تتلاعب بها الولايات المتحدة والدول الحليفة لها، سقطت على مرأى ومسمع من الجميع، وانكشف بشكل وقح كيف تستخدمها واشنطن بحسب الحاجة وتتخلّص منها عندما تتعارض مع مصالحها الاستعمارية، لذا لا يمكن استئمان الذئب على الخراف الشاردة، فما أظلم الراعي إذن.
الدرس المستفاد من حرب غزّة، أنّ العودة إلى طاولة التفاوض يجب أن تكون في ضوء الأوضاع والمستجدات الجديدة على الأرض، ما تحقّق في 7 أكتوبر يجب أن يكون حاضرًا، حجم الدماء الفلسطينية المسفوكة منذ 9 أكتوبر لا يمكن أن يذهب هدرًا، العودة للتفاوض على قاعدة "حل الدولتين" دون إلزام إسرائيلي بوقف المستوطنات وإعادة الأرض المسلوبة نكتة لا تُضحك، وعلى الدبلوماسية العربية أن تتحرّك وتنسّق في ما بينها لترجمة ما حقّقته المقاومة على الأرض إلى واقع... لكن هل تعي الأنظمة العربية الدرس أما على قلوب أقفالها؟
أثبت أهالي غزّة أنّ "الحقّ بغير القوّة ضائع، والسلام بغير مقدرة الدفاع عنه استسلام"
إنّ العرب أمام خيارين، الأول أن يرفضوا السلام على الطريقة الأمريكية، والثاني أن يسلّموا الأرض الفلسطينية للكيان الصهيوني على طبق من فضّة تحت شعار تسليم مفاتيح القضية لواشنطن التي طالما ضيّعت الحق الفلسطيني، وسلّمت الأرض العربية لمن لا يستحق، فالمسار الأمريكي هدفه تخفيف الضغط عن إسرائيل في الأوقات الصعبة، وإطلاق يدها لنهب الأرض العربية عندما تكون الظروف مؤاتية.
نستعيد هنا مقولة الزعيم جمال عبد الناصر "إنّ الحقّ بغير القوّة ضائع، والسلام بغير مقدرة الدفاع عنه استسلام"، وأثبت أهالي غزّة البواسل هذه الحقيقة، بفرضهم القضية بالقوّة على الجميع، وإثبات قدرتهم على الدفاع عن أرضهم، فهل تستثمر الدبلوماسية العربية هذه المعطيات الجديدة لبناء خطاب تفاوضي جديد؟ أما تهدرها كفرصة عظيمة نبكي عليها بعد أن نضيعها؟ علينا استثمار المتاح وما تحقّق، لطرح المسار العربي الجدّي لحماية حقوق الفلسطينيين ورفع سقف المطالب، وأن نقول للسلام الأعرج على الطريقة الأمريكية وداعًا.
(خاص "عروبة 22")