لطالما شكّل ذلك القطاع الضيّق المكتظ بالسكان، عبئًا كبيرًا ومعضلة استعصت على حكومات إسرائيل، سواء وهو تحت الاحتلال المباشر بعد نكسة 1967، أو بعد تنفيذ خطة "فك الارتباط" وانسحاب إسرائيل منه في 2005.
فشلت الحلول العسكرية في إخضاع القطاع، ولم يُجدِ الحصار الاقتصادي الخانق الذي استمرّ ما يقرب من عقدين نفعًا، ومع كل محاولة لإسكات غزّة وكسر إرادة شعبها يعود القطاع أصلب مما كان، مقاومته أكثر تطورًا وشراسةً ورغبةً في الانتقام، وهو ما يُمثّل تهديدًا لكيان الدولة العبرية.
تصريح إلياهو لم يكن "على سبيل المجاز" كما حاول الوزير الصهيوني المتطرّف بن غفير تبرير ذلّة لسان صديقه، لكنه كان دليلًا يضاف إلى مئات الأدلة على أنّ حكومة نتنياهو، لا ترغب في التجاوب مع أي محاولة لوقف المجازر اليومية والتفاوض حول أسراها والبدء في عملية تسوية سياسية شاملة، فضلًا عن أنها لا تملك استراتيجية واضحة للخروج من غزّة، وهو ما أثار قلق حلفائها في واشنطن.
ما يحكم إسرائيل في تلك اللحظة فقط هو شهوة الانتقام، مهما كلّفها ذلك من أثمان حتى لو كان الثمن "إبادة غزّة من على وجه الأرض.. والتضحية بالمختطفين الإسرائيليين.. فالحرب لها أثمان".
في مقاله المنشور بصحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية نهاية الشهر الماضي، دعم مبعوث الولايات المتحدة الأسبق لعملية السلام في الشرق الأوسط دينيس روس استمرار الحرب في غزّة لحين القضاء على "حماس"، لافتًا إلى أنها ليست رغبة إسرائيل وأمريكا فحسب بل "رغبة قادة عرب تحدّث معهم" بعد اشتعال المعركة.
روس تطرّق إلى سيناريو إدارة القطاع بعد القضاء المفترض على المقاومة ونزع سلاحها، ويقضي المقترح ببقاء إسرائيل في غزّة بعض الوقت إلى أن تتمكّن من تسليم السلطة فيه لإدارة مؤقتة لمنع حدوث فراغ، "تُدار هذه الإدارة من قبل تكنوقراط فلسطينيين تحت مظلّة دولية تشمل دولًا عربية وغير عربية"، على أن تكون مدعومة من الولايات المتحدة وتعمل تحت مظلّة الأمم المتحدة "مثلًا".
السيناريو الذي طرحه روس، يتشابه ويتشابك مع مشروعات تُناقش علنًا أو سرًا في غرف مغلقة بين الأطراف المعنية، لإدارة القطاع بعد انتهاء الحرب و"القضاء على المقاومة"، فما بين تمكين سلطة أبو مازن من السيطرة على القطاع ليتحوّل إلى "ضفة جديدة" تقع تحت وصاية الدولة العبرية، مرورًا بمقترح تشكيل قوة عربية مشتركة تعمل تحت مظلّة الأمم المتحدة تدير القطاع، وصولًا إلى مشروع "الترانسفير" والذي تقاومه القاهرة بقوة - حتى هذه اللحظة - رافضةً كل الضغوط والإغراءات الاقتصادية والمالية التي تُعرض عليها من حلفائها الغربيين.
مصر لن تقبل بوجود قوات أجنبية أو عربية لا في القطاع ولا على حدودها مع غزّة
الحكومة المصرية عبّرت عن رفضها لمخطط "التهجير القسري للفلسطينيين، حتى ولو بشكل مؤقت" بإبلاغ الوسطاء الأمريكيين والغربيين أنها قد تضطر إلى اتخاذ إجراءات تصعيدية، منها "إلغاء معاهدة السلام مع إسرائيل إذا استمرّت الأخيرة في الضغط بطرقها الدموية لتنفيذ مخطط التهجير".
وبحسب ما نقلت تقارير إعلامية، فالرئيس المصري عبد الفتاح السيسي عبّر عن رفضه لكل المشروعات المطروحة ما دامت إسرائيل تصرّ على موقفها الرافض لوقف إطلاق النار، مشددًا على أنّ مصر لن تقبل بوجود قوات أجنبية أو عربية لا في القطاع ولا على حدودها مع غزّة.
وقالت مصادر قريبة من دوائر صنع القرار في القاهرة، إنّ هزيمة المقاومة وسقوط غزّة يُعد تهديدًا مباشرًا للأمن القومي المصري، وهو ما نقله المسؤولون المصريون إلى الساسة الأجانب والعرب وإلى وفد "حماس" الذي كان في زيارة للقاهرة قبل يومين.
ما يُصعب من تنفيذ سيناريوهات الخلاص من غزّة - حتى الآن -، هو الصمود البطولي لشعب غزّة واستبسال مقاومته التي لا تزال تشتبك مع قوات العدو وتحمّله خسائر يومية فادحة، ما قد يطيل من أمد معارك المدن التي ستشكّل عبئًا على حكومة نتنياهو المثقلة بالأعباء.
داخليًا؛ تشكّل احتجاجات أهالي المُختطفين والمتعاطفين معهم ضغوطًا على الحكومة الإسرائيلية، يضاف إليها نقطة ضعف أخرى تتمثّل في الخسائر غير المعلنة في صفوف الجيش، فضلًا عن تصاعد الخسائر الاقتصادية الناتجة من استمرار الحرب، وخارجيًا تضج عواصم الغرب بمظاهرات حاشدة تُندد بالحرب بما يُضعف من مواقف الحكومات الغربية الرافضة لوقف إطلاق النار.
هذا الموقف دفع زعيم المعارضة الإسرائيلية، يائير لابيد، لأن يؤكد مطلع الأسبوع الماضي أنّ بلاده "ليست مكانًا آمنًا، وليست دولة أخلاقية وليست قوة إقليمية ولم تربح الحرب"، وقال خلال زيارته لخيمة الاحتجاج التي أقامتها عائلات الأسرى للوصول إلى صفقة مع "حماس": "سندعم أي صفقة مهما كانت مدلولاتها وتداعياتها".
الخلاص من غزّة والقضاء على المقاومة بشكل نهائي، هدف يصعب تحقيقه
في مداخلة بالإذاعة الإسرائيلية قالت كرميلا منشيه المراسلة والمحللة العسكرية إنّ "إسرائيل لن تتمكّن من ردع حماس.. الأمر الذي يضع علامات استفهام كبيرة حول قدرة الجيش على القضاء عليها".
وترى منشية أنّ جيش الاحتلال ربما يحتاج إلى عدة شهور للقضاء على حماس، "لكن الاقتصاد الإسرائيلي لا يتحمّل عملية عسكرية ممتدة لشهور"، لافتةً إلى أنّ حكومة نتنياهو لا يبدو أنها تملك خططًا حقيقية قابلة للتنفيذ لترتيبات اليوم التالي في غزّة.
بشهادة ساسة ومحللين إسرائيليين، فالاحتلال في أزمة، تتسع يومًا بعد يوم، والأسباب عدّدها كل من منشية ولابيد وغيرهما، ومن ثم فإنّ الخلاص من غزّة والقضاء على المقاومة بشكل نهائي، هدف يصعب تحقيقه.
أيًا كانت نتائج المعركة الدائرة الآن في شوارع القطاع وفي محيط مشافيه، فغزّة باقية والمقاومة لن تنتهي. فما دام الجرح مفتوحًا والحقوق ضائعة ستظل النار متقدة قد تهدأ جذوتها بعض الوقت لكنها حتمًا ستعاود الاشتعال.
(خاص "عروبة 22")