قديمًا قالوا: لا يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار الى دليل، ونحن نعيش في هذه اللحظة التاريخية القاسية في وضح النهار؛ ليل نهار. ما يحدث في غزة امر جديد وغير مسبوق، ويحتاج الى تفكير عميق، والى طرح جميع الأسئلة المباحة منها، والمُحرمة، وأول هذه الأسئلة هل فعلا كانت عملية المقاومة الفلسطينية في يوم 7 أكتوبر الماضي اختراقا حقيقيا لكل الدفاعات الإسرائيلية؛ ام ان هناك من غض الطرف، وأفسح الطريق لتحقيق الأهداف الأكبر من حياة عدة آلاف من البشر؟ وهنا لا ننسى ان الفكر السياسي الغربي في مرحلة الحداثة وصل الى درجة لا تفرق بين الانسان والأشياء، في حالة من التماهى بين الاثنين؛ بحيث يكون الانسان مثله مثل أي شيء؛ وسيلة لتحقيق اهداف ومصالح للكيانات الكبرى، وهذا ما أطلق عليه الدكتور عبد الوهاب المسيري رحمة الله عليه «تشيؤ الانسان».
وهل وصول أكبر حاملة للطائرات الامريكية جيرالد فورد الى شرق البحر المتوسط بمجرد الإعلان عن حادثة اقتحام الحدود من غزة الى إسرائيل، تبعتها حاملة الطائرات الأخرى أيزنهاور، ثم تدفقت الأساطيل من كل الدول الغربية الكبرى بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا، وتدفقت معها القوات الخاصة... هل جاء كل ذلك لمواجهة حماس؟! أم لان التخطيط الاستراتيجي يقول إن هذا الصراع سوف يتوسع وتدخل فيه دول أخرى؟
وعلى الجانب الآخر هل ذلك الإصرار على استمرار قصف المدنيين، والوقوف بحسم وبصراحة، ودون أي غطاء دبلوماسي ضد أي دعوة لوقف إطلاق النار... هل كل ذلك بسبب قوة جماعات الضغط اليهودية في العالم الغربي؟ ولماذا هذه المواقف التي تنزع الشرعية عن المنظومة القانونية، والمؤسسية الدولية التي استخدمها العالم الغربي لقيادة باقي دول العالم وإخضاعها؟ هل يعقل أن يجتمع ساسة الدول الغربية الكبرى على هذا القدر من الصلف والغرور وعدم المعقولية في موقف إنساني استفز الجماهير بكل أديانها ولغاتها وأوطانها؛ وتدفقت في الشوارع تطلب حماية النساء والأطفال؟ أليس هناك سر ما كامن خلف هذا الموقف غير المسبوق مهما تخيلنا حالة الكبر والصلف والتعالي والغرور التي فرضها شعب الله المختار على العالم؟ أليس من المعقول ان نفكر في أسباب عقلانية رشيدة تجعل مواقف الدول الغربية الكبرى وذراعها المدللة في الشرق الأوسط توغل بهذا القدر من العمق في خطيئة إنسانية كبرى؛ سوف يسطرها التاريخ بحروف من دم الأبرياء المشردين اللاجئين؛ الذين يعيشون مأساة لثلاثة أجيال متتالية من الظلم والقهر والتضييق والسجن الجماعي؟.
وحتى لا نذهب بعيدا لماذا لا نفكر أيضا في دوافع حركة حماس، هل فعلا هذا الهجوم الساحق الماحق تم دون ترتيبات مع أطراف دولية معينة؛ تمول حماس وتريد خلط الأوراق، ووراءها أطراف أخرى تساندها في سوريا تريد صرف الأنظار عن أوكرانيا؟ أليس من الممكن ان تكون حماس مثل القاعدة تم اختراقها، او تم تحريكها لتنفيذ ما يشبه أحداث سبتمبر 2001؟ ولماذا هذا الموقف الغريب من حزب الله في لبنان، وفي نفس الوقت يتحرك الفاعلون الصغار في نفس المنظومة من اليمن البعيد؟
أسئلة مشروعة تدعو للتفكير ولا تحمل أي اتهام لأي أحد، فالسؤال يحتمل الإجابة بالتأكيد أو النفي، ولكن هناك من الشواهد ما يخيف أي عربي حريص على سلامة جميع الدول العربية والحفاظ على مقدراتها، وعدم توريطها في مغامرات غير محسوبة، ولم تكن في حسبانها، ولم يتم استطلاع رأيها فيها، بل فرضت عليها فرضا بفعل الاستفزاز الوحشي غير المسبوق والذي يتم تحت حماية القوى الكبرى في العالم الغربي. لو أُلقيت على غزة قنبلة نووية كان التأثير على العالم العربي والإسلامي أقل حدة، ولكن القتل اليومي، واستهداف المستشفيات والمدارس والملاجئ بقصد القتل يحرك من لا يملك القدرة على التحرك.
طول مدة الحرب في غزة، والإصرار على عدم وقف إطلاق النار حتى من الدول السبع الكبار بفعل التأثير الأمريكي يقول بصراحة إن الهدف هو توسيع دائرة الحرب؛ من خلال الضغط الشديد على مشاعر المواطنين العرب، والجيوش العربية من المواطنين، حتى يحدث انفلات هنا او هناك فينفجر الموقف، وتشتعل المنطقة، والاساطيل جاهزة، وحينها تتم إعادة ترتيب أوضاع العالم العربي بصورة تعيده الى سابق عهده، الى اقتصاد الحرب الذي ظل مسيطرا على مجمل الدول العربية طوال فترات الصراع العربي الإسرائيلي، وحينما ذهب السادات الى القدس ودخلت مصر في سلام مع إسرائيل؛ انفجرت الجبهة الشرقية بحرب عراقية إيرانية، ثم عراقية كويتية، ثم الغزو الأمريكي للعراق، ثم الحروب الأهلية التي تلت الربيع العربي المشؤوم. وحين بدأت بعض الدول العربية تصل الى مرحلة الإقلاع والانطلاق في خطط التنمية وانضم بعضها لمجموعة بريكس، هنا يحتاج العرب الى حرب تعيدهم الى سالف عهدهم، وتعيد معهم روسيا الى الوضع الذي يريده الغرب.
الدعوات المتكررة لعدم توسع الصراع في غزة الى صراع إقليمي، وعدم دخول أطراف أخرى فيه، هي دعوة من نوع النبوءة المحققة لذاتها، أي أن تكرار هذا الخطاب هو في ذاته دعوة غير مباشرة للعديد من الأطراف المتحمسة للانخراط في الصراع بصورة تجر معها دولها، وهنا يتحقق الهدف الذي جاءت معه الاساطيل حتى لا تعود خالية الوفاض... ولا غالب إلا الّله.
("الأهرام") المصرية