وجهات نظر

من وحي التفاعلات البحثية مع "عدوان غزّة" (2): بعضٌ من اللا مفكّر فيه

هذه مقالة تتمّة للمقالة السابقة التي تطرّقت لبعض معالم تفاعلنا الجمعي مع أحداث ومآسي "طوفان الأقصى"، ونخصّ بالذكر التفاعل السائد في مواقع التواصل الاجتماعي وليس التفاعل السائد في المنابر الإعلامية والمؤسسات البحثية، ولا حتى تفاعل صنّاع القرار، داخل وخارج المنطقة، لأنّ هذه تفاعلات معقّدة التناول، إضافة إلى أنه حُرّر فيها الشيء الكثير، كمًا ونوعًا، بخلاف الخوض في التفاعلات الرقمية، مع أنّ العوالم الافتراضية أصبحت إحدى العوالم التي تُترجم السائد في مخيال الشعوب كما تترجم أداء صانعي القرار في آن.

من وحي التفاعلات البحثية مع

كان موضوع المقالة السابقة، تسليط الضوء على مضامين مجموعة من التفاعلات عبر مواقع التواصل الاجتماعي صادرة عن باحثين عرب، ونجزم أنها تكرّس أزمات بنبوية حقيقية في الجهاز المفاهيمي لهذه الأسماء المعنية، ومعها الجهاز النظري للإيديولوجيات التي ينهل منها هؤلاء، وقد اتضح أنّ نسبة لا بأس بها من مرجعية هؤلاء، تنهل من أدبيات "الإسلام السياسي"، سواء تعلق الأمر بأقلام تنتمي إلى هذه المشاريع أو تعرّضت لتأثير خطاب المشاريع نفسها، ضمن ظاهرة "أسلمة المخيال" التي تعرّضت لها المنطقة العربية خلال العقود الماضية.

صبّت تلك التفاعلات في ترويج خطاب اختزالي أو شعبوي، وقد صدرت مقالات نقدية في هذه المنصة ضد هذه النزعة، ونخصّ بالذكر مقالة أولى للباحثة نزهة بو عزة تحت عنوان "شيطنة الفكر الأنواري على ضوء الوضع الفلسطيني الراهن"، وتلتها مقالة للباحث مصطفى راجعي تحت عنوان "بيان ضد الشعبوية المتصاعدة في حرب غزّة".

الإحالة على المقالتين معًا أمر متعمّد، وذلك لعدّة اعتبارات، ونتوقف عند اعتبارين منها على الأقل:

ــ يُفيد الأول أنّ الوعي بصعود هذه الشعبويات أو تكريس تزييف الوعي الذي يتحدّث عن "أفول الغرب" أو "نهاية" الحداثة (كذا بإطلاق، دون التدقيق في المقصود بالغرب والحداثة)، وعي متواضع، هذا إن لم يكن أمرًا لا مفكرًا فيه أساسًا، باصطلاح ميشيل فوكو، وبالتالي، مهم جدًا إثارة انتباه المتلقي والرأي العام، وخاصة الأقلام البحثية والإعلامية باعتبارها فاعلة في تنوير الرأي العام.

ــ أما الاعتبار الثاني، فمردّه الانخراط النظري في تقويض ذلك الخطاب الاختزالي الذي يستغل ظرفية تاريخية حساسة تمرّ منها المنطقة، من أجل الاستمرار في ترويج خطاب تزييف الوعي، وفي مقدّمته تزييف الوعي باسم الدين، أي باسم المقدّس.

نتوقف في هذه المقالة عند ملاحظات أخرى تهمّ التفاعل الرقمي سالف الذكر أعلاه، ومع أنها تهمّ من وهلة أولى الرأي العام المنخرط في هذه التفاعلات الرقمية، إلا أنها تهمّ أيضًا دوائر صناعة القرار.

البقاء في المقام الاستنكاري، يُصبح شماعة تحجب التفكير في تراجع مؤشرات "اقتصاد المعرفة" في المنطقة العربية

يتعلّق الأمر بمعضلة التضييق الذي تعرّضت له أغلب الحسابات العربية المتفاعلة مع القضية الفلسطينية في مواقع التواصل الاجتماعي، وخاصة في موقع "فيسبوك"، على هامش التفاعل مع مآسي غزة، وهو التضييق المرتبط بأداء الخوارزميات، وهذا أمر متوقع في نهاية المطاف كما انتبهت إلى ذلك بعض هذه الحسابات، إلى درجة الحديث عن الهجرة نحو مواقع تواصل بديلة، من قبيل منصة "إكس" (تويتر" سابقًا).

الملاحظ أنّ أصحاب الحسابات نفسها المعنية بالتضييق، لم يتأخروا في التعبير عن التنديد والامتعاض بخصوص المعضلة، لكن ما يُثير الانتباه هناك مجموعة ملاحظات، تحيلنا بدورها على بعض الخلاصات المسكوت عنها أو التي ربما لم نأخذها بعين الاعتبار، إن لم تكن موضوعًا حساسًا، ليس من صالح المعنيين الخوض فيه، ونتوقف هنا عند ملاحظتين وحسب:

ــ تهمّ الملاحظة الأولى جزئية بسيطة ذات صلة بالتناقضات التي نعاني منها وعلى الأرجح لا ننتبه إليها، وتكمن في تعاملنا مع إحدى تطبيقات موقع "فيسبوك"، وتعامل إدارة الموقع نفسه معنا.

معلوم أنّ هذا الموقع يُخوّل للمتصفّح اللجوء إلى تفعيل خيار "الحجب" أو البلوك" اتجاه حساب ما، بصرف النظر عن الأسباب التي تجعل المعني باللجوء، مضطرًا لتفعيل التطبيق، هذا دون الحديث عن إمكانية انخراط تيار ما أو عدة حسابات رقمية، في حملة تبليغات ضد حساب معين، إما لأغراض سياسية أو دينية أو إيديولوجية أو أخلاقية أو لأغراض أخرى، هذه تفاصيل ثانوية ولا يهمّنا الخوض فيها.

نحن نطبق الصمت فيما بيننا عن اللجوء إلى هذه الخيارات التي يُوفرها لنا موقع "فسبوك"، مقابل إعلان الاستنكار والامتعاض عندما تلجأ الإدارة نفسها إلى التطبيقات نفسها أو تطبيقات أخرى خاصة بها، ذات صلة بتصوّرها الخاص بالتعامل مع قضايا مُعَيّنة في الساحة/العالم، ومنها قضية أو مأساة غزّة.

نقول هذا ونحت نصرف النظر عن معضلة أخلاقية ذات أرضية قانونية، مفادها أنّ حساباتنا جميعًا في مواقع التواصل الاجتماعي، لم تظهر فجأة بدون مقدمات، وإنما بناءً على طلب منا، لأننا نحن من طرقنا باب إدارة "فيسبوك" أو غيرها من أجل فتح الحساب، وعلى الأرجح، وبنسبة مئوية كبيرة، دون قراءة لائحة القواعد والالتزامات القانونية الخاصة بفتح الحساب.

ــ أما الملاحظة الثانية، فتهمّ جزئية أعمق وأعقد بكثير من الأولى، بل أكثر حساسية وإثارة للقلاقل، لأنها تهمّ دائرة صناعة القرار، على الأقل صنّاع القرار الخاص بالمجال العلمي وثنائية "اقتصاد المعرفة" و"مجتمع المعرفة".

يمكن أن يتفهّم المرء انخراط "العامة" أو "البسطاء" في حملة امتعاض واستنكار بسبب لجوء إدارة "فيسبوك" إلى التضييق الرقمي، لكن أن نُعاين التفاعل نفسه عن أقلام بحثية أو عن أهل النظر الفكري والديني والاقتصادي والاجتماعي وما إلى ذلك، الأمر مختلف كليًا، لأنّ البقاء في هذا المقام الاستنكاري، يُصبح شماعة تحجب التفكير في جملة أسباب وراء هذه المفارقات، وفي مقدّمتها تراجع مؤشرات "اقتصاد المعرفة" في المنطقة العربية، والتي توجد من بين الأسباب المسكوت عنها التي تفسّر غياب مواقع تواصل اجتماعية إقليمية، فالأحرى غياب مواقع تواصل اجتماعي ذات صلة بمحور طنجة - جاكارتا، أو صادرة عن أبناء المنطقة، لكنها مفتوحة أمام العالم بأسره، على غرار ما يقوم به الثنائي مارك زوكربيرغ وإيلون ماسك ضمن أمثلة أخرى.

سوف تبقى المعضلة طالما لم نفتح أوراشًا علمية حقيقية نُنافس فيها العالم

من المفارقة أنّ مصطلح الخوارزميات الذي أصبح متداولًا بوتيرة أكبر خلال الأسابيع الأخيرة، على هامش استنكار بعض الحسابات لجوء إدارة هذا الموقع إلى التضييق عليها بسبب التفاعل مع أحداث غزّة، مصطلح يعود لأحد علماء محور طنجة - جاكارتا بالأمس، أي في حقبة كانت فيها جوائز نوبل حينها (لو افترضنا أنها كانت حينها)، توزّع على ابن النفيس وابن سينا والبيروني واللائحة تطول.

وهذه جزئية يصمت عنها الجميع في سياق الاستنكار أعلاه، لأنه ليس من مصلحتنا الخوض فيها، خاصة أنها لا تخدم سياق التفاعلات العاطفية أو الاختزالية، موازاة مع حساسية التطرّق إليها ما دامت تفضي بالضرورة إلى إثارة القلاقل العربية المرتبطة بثنائية "اقتصاد المعرفة" و"مجتمع المعرفة"، والحال أنّ مؤشرات هذه الثنائية بالذات، متواضعة جدًا في سياق التفاعل مع الأحداث نفسها، ولنا أن نقارن حكم ونوع الأعمال البحثية والمؤلفات والمجلات التي تصدر في إيران وتركيا حول المنطقة العربية، مقارنة مع الأعمال البحثية العربية المخصّصة لإيران وتركيا، ضمن مقارنات أخرى.

هذا هو بيت القصيد في المعضلة، ضمن أبيات أخرى، لا زالت في طيّ اللامفكّر فيه، وسوف تبقى كذلك، طالما لم نفتح أوراشًا علمية حقيقية نُنافس فيها العالم، وحينها، إذا فكّر أحدنا في توظيف هذه المستجدات العلمية وغيرها في مثلِ هذه الأزمات والمآسي الإنسانية التي تمرّ منها المنطقة، لن نضطر إلى قراءة تفاعلات تعبّر عن امتعاض وسخط بسبب تضييق إدارات مواقع التواصل الاجتماعي، نحن - في نهاية المطاف - عبارة عن ضيوف لديها، ولسنا أهل الدار حتى نزايد على أهل الدار أو ينخرط عقلنا الجمعي في ممارسات تعجّ بالازدواجية، مع نفسه ومع العالم.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن