ما زالت رائحة البارود، وسحب الدخان، وقذائف الطائرات، والمدفعية، تغطي قطاع غزّة، وما زالت إسرائيل تحصد أرواح الآلاف من المدنيين؛ أطفالاً ونساءً وشيوخاً ورجالاً، من أبناء الشعب الفلسطيني، يومياً، وما زالت إسرائيل تدمر أحياء غزة، وشوارعها، وبنيتها الأساسية، الواحدة تلو الأخرى، بدعوى البحث عن رجال حماس، وما زالت إسرائيل تحرم أبناء الشعب الفلسطيني من أبسط حقوقهم في الحصول على المساعدات الإنسانية من الماء والطعام والدواء، وما زالت إسرائيل تتمادى في عدوانها الغاشم بقصف المستشفيات ودور العبادة ومخيمات اللاجئين التي فر إليها الأبرياء احتماءً بالقانون الدولي، الذي يصنف تلك الأفعال ضمن جرائم الحرب.
ورغم تلك المأساة، وبدلاً من الضغط على إسرائيل لوقف إطلاق النار، فوراً، علت بعض الأصوات داعية للتفكير فيما بعد انتهاء الحرب في غزة؟ ويبدو أنها لم تكن دعوة حقيقية للتفكير، بقدر ما كانت مدخلاً لطرح عدد من البدائل والسيناريوهات، التي وضعها أطراف مختلفة؛ انطوى السيناريو الأول على اقتراح تولي مصر الإشراف على قطاع غزة، مثلما كان متبعا منذ حرب عام 48 وحتى بعد حرب يونيو 67. وبالطبع، رفضت مصر والسلطة الفلسطينية وباقي الدول العربية هذا السيناريو رفضاً باتاً.
فطُرح السيناريو الثاني بعودة السيطرة على قطاع غزة للسلطة الفلسطينية، كما كان في السابق، قبل تولي حماس زمام الأمور بها، وهو السيناريو الذي لاقى قبولاً لدى السلطة الفلسطينية والدول العربية، إلا أن إسرائيل رفضته بدعوى عدم وجود ضمانات لعدم ظهور فصيل جديد ليكرر ما قامت به حماس، من قبل، بالاستيلاء على قطاع غزة.
فلحقنا السيناريو الثالث بوضع قطاع غزة تحت إدارة وسيطرة الأمم المتحدة، ووضع قوات أممية على حدوده لحمايته، فرفضت مصر، وباقي الدول العربية، ذلك السيناريو لما يحتويه من تفريغ للقضية الفلسطينية من مضمونها. فتم تعديله بالسيناريو الرابع الرامي لتكوين إدارة دولية تضم الولايات المتحدة، وعددا من دول حلف الناتو، وبعض الدول العربية، من بينها مصر، للقيام بإدارة قطاع غزة، فرفضت مصر والدول العربية هذا السيناريو لنفس الأسباب.
وخلال زيارة مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (CIA)، ويليام بيرنز إلى مصر، للقاء الرئيس عبدالفتاح السيسي، عرض عليه مدير الوكالة سيناريو جديد، وهو أن تتولى مصر إدارة قطاع غزة، بصورة مؤقتة، بعد انتهاء الحرب، مباشرة، للسيطرة على أوضاعها، لحين هدوء واستقرار الأوضاع في القطاع، على أن تعتبر تلك فترة انتقالية يتم الاتفاق على مدتها، يتم بعدها تسليم القطاع للسلطة الفلسطينية، على أن تتكفل الولايات المتحدة لمصر بالدعم الفني والمالي والمعدات العسكرية، اللازمة لإعادة تنظيم القطاع، معرباً عن استعداد بلاده للمساهمة في استصدار قرار من الأمم المتحدة، لتفعيل وتنظيم ذلك المقترح.
وقد رفضت مصر هذا السيناريو، وهو ما اتضح من الرد القاطع للرئيس عبدالفتاح السيسي، بأن المقترح يعني مصادرة حق الفلسطينيين في إدارة بلادهم، فضلاً عن تفريغه القضية الفلسطينية من مضمونها ومفهومها، مؤكداً رفض مصر الاشتراك في أي قوة دولية للسيطرة على القطاع، أو خروج أي جندي خارج الأراضي المصرية، للتدخل في شأن دولة أخرى. كما أن مصر ترفض، تماماً محاولات التهجير القسري لأبناء فلسطين، سواء من غزة إلى مصر، أو من الضفة الغربية للأردن، لأن كيان أي دولة أساسه شعب ثم وطن ثم إدارة، مؤكداً أن حدود مصر خط أحمر، غير مسموح، لأي جهة، بتجاوزه.
ورغم ما عرضه مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية من إغراءات، فإن الرئيس السيسي كان واضحاً وقاطعاً وحاسماً، في رده. وخلال استكماله جولته في منطقة الشرق الأوسط، للحصول على تأييد للمقترح الأمريكي الجديد، سمع ويليام بيرنز نفس وجهة النظر المصرية من قطر. وعلى أي حال فإن موضوع تهجير الفلسطينيين، قسراً، من قطاع غزة إلى مصر، كان قد حُسم في أثناء زيارة وزير الخارجية الأمريكي أنتونى بلينكن، لمنطقة الشرق الأوسط، مؤخراً، ولقائه الرئيس السيسي في مصر، إذ كتب، بعد اللقاء، على حسابه الرسمي على منصة التواصل الاجتماعي، إكس، أن الولايات المتحدة الأمريكية، تتفق مع عدم التهجير القسري للفلسطينيين من غزة إلى مصر.
ورغم محاولات رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، منذ اندلاع الحرب في غزة، بإقناع الدول الغربية، خاصة رؤساء دول حلف الناتو، بجدوى ذلك المقترح، إلا أن أحلامه تحطمت أمام الإصرار المصري على عدم الانصياع للمحاولات الرامية لتوطين الفلسطينيين في سيناء، بما يمكننا من تأكيد إغلاق الأمر برمته، وعدم طرحه مرة أخرى، مع تأكيد إبقاء حكم غزة تحت إدارة فلسطينية، والعودة إلى حل الدولتين، الذي تمتد فيه الدولة الفلسطينية لحدود يونيو 67، وعاصمتها القدس الشرقية، وهو الحل الممكن في ظل إدارة الرئيس الأمريكي الحالي، جو بايدن، المنتمي للحزب الديمقراطي، المؤيد لحل الدولتين، على عكس الرئيس السابق، ومرشح الحزب الجمهوري الحالي، دونالد ترامب، الذي لا يؤمن بحل الدولتين، ويؤمن بفكرة الدولة الواحدة، التي يعيش فيها اليهود والمسلمون والمسيحيون على أرض واحدة، وهي أرض إسرائيل الكبرى.
وفي كل الأحوال، فجميعنا يترقب وقفاً، عاجلاً، لإطلاق النار، حقناً لدماء الأبرياء، وانتهاءً لتلك الحرب الغاشمة، حتى يعود السلام للمنطقة، في إطار دولة فلسطينية، ذات سيادة كاملة، وعاصمتها القدس الشرقية.
("الأهرام") المصرية