وجهات نظر

"من الضحية إلى الجلّاد": كيف خسرت إسرائيل حربها الإعلامية على غزّة؟

في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، انطلقت عملية "طوفان الأقصى" باستهداف بطولي مباغت، سريع وجريء لمستوطنات ومواقع يتحصّن بها الجيش الإسرائيلي على تخوم وبمحيط قطاع غزّة. أصيب العالم أجمع بدهشة عارمة، فيما أصيبت إسرائيل بصدمة لم تعهدها ولا استشرفتها يومًا بتاريخها الممتد لأكثر من 75 سنة.

من ذلك اليوم، وقطاع غزّة المحاصر يئنّ تحت نيران القصف الجوي والبحري الممنهج، مع توغّل بري واسع النطاق، تحت سقف محدّد من هدفين اثنين: تقويض حركة "حماس"، وتحرير الأسرى والمحتجزين.

بيد أنّ إسرائيل لم تعمد إلى إعلان الحرب على المقاومة بقطاع غزّة، إلا بعدما مهّدت لها بحرب إعلامية واسعة، اصطفت خلفها كل وسائل الإعلام والاتصال الغربية، فضائيات ومواقع إنترنت وشبكات اجتماعية ووسائط تواصل اجتماعية، وما سواها.

لقد نجحت إسرائيل بالأيام الأولى للحرب، في ترويج سرديّتها لما وقع، لا بل نجحت في فرضها على الرأي العام العالمي كسرديّة واحدة ووحيدة، باستحضارها تستقيم الحقيقة وبالتنكّر لها أو نكرانها يسقط المرء في السرديّة النقيض، أي سرديّة دعم الإرهاب ومعاداة السامية.

فظاعة القصف الهمجي وأعداد الضحايا واستهدافات المستشفيات أدّت إلى تحوّل جوهري في النظرة إلى ما يجري 

ولذلك، فلم يكن من الوارد أبدًا، فما بالك المسموح به إعلاميًا، التطرّق للمسألة إلّا من زاوية واحدة، زاوية السرديّة الإسرائيلية التي تبدأ حصريًا بإدانة حركة "حماس" ووصف فعلها بـ"الفعل الإرهابي"، وتنتهي حتمًا بضرورة الإجهاز عليها سلطةً وبنيةً وتنظيمًا.

تابعنا العشرات من القنوات الفضائية الأمريكية والأوروبية، وعاينا العشرات من التصريحات والنقاشات من على منابر استوديوهاتها، فتبيّن لنا بالقطع ألّا مكان على منصاتها إلا لمَن يستنكر ويدين ويتوعّد، ثم يتفهّم ردّة الفعل الإسرائيلية حتى وإن تجاوز "حقها في الدفاع عن نفسها" على أخلاقيات الحرب ومحاذير القانون الدولي الإنساني.

بيدَ أنّ فظاعة ما ترتّب عن القصف الهمجي لقطاع غزّة والأعداد الهائلة من الضحايا، ناهيك عن الاستهدافات المقصودة للمستشفيات والمدارس وشبكات الماء والكهرباء، قد أدّت جميعها إلى تحوّل جوهري كبير في النظرة إلى ما يجري على يد ضحية الأمس التي تحوّلت بمرور الوقت إلى جلاد شرس.

لقد أدّت الصور الحيّة العابرة للحدود، والتغطيات الميدانية، وبالمباشر الحيّ، لوسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي، إلى استنكار كبير لمجازر خرجت جرّاءها وفي أعقابها مظاهرات بعشرات الآلاف من كل بلدان الأرض، تطالب المنظّمات الدولية بالتدخل والحكّام في الغرب بحثّ إسرائيل على وقف المذبحة.

لم تصمد بالتالي، سرديّة الضحية التي دفعت بها إسرائيل وبرّرت بها سلوكها طيلة الأسبوع الأول، حيث تمّت الاستعاضة عنها بالإعلام ومن بين ظهراني الرأي العام الدولي، لفائدة مصطلحات مستقاة من حقائق الواقع على الأرض، من قبيل المحرقة والمذبحة والإبادة الجماعية والتطهير العرقي وغيرها.

اكتشَف العالم بلدًا إسمه فلسطين وتفهّم أنّ ما جرى يوم 7 أكتوبر هو نتاج تراكمات تاريخية لا يمكن أن تستمر

وعليه، فلم تعد السرديّة أعلاه أداة هجوم، بل ارتدّت إلى وسيلة دفاع تمتطي ناصية دعاوى واهية شتى، من قبيل "اتخاذ المقاومة للمدنيين كدروع بشرية" أو اعتبارهم ضمن نطاق أعراض الحرب الجانبية، التي لا يمكن تجنّبها.

لقد اكتشف العالم أجمع، بلدًا إسمه فلسطين، واقتنع بأنّ ثمة احتلالًا ظالمًا للفلسطينيين حقّ مقاومته، وتفهّم مبرّر أنّ ما جرى يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول هو نتاج تراكمات تاريخية لا يمكن أن تستمر.

بالآن ذاته، اكتشف العالم، بالصورة والصوت، أنّ سرديّة الضحية لا تستقيم، لأنّها تضمر الكذب والتضليل وتقلب الحقائق. لقد تيقّنَ أنّ الجيش الإسرائيلي هو الذي دمّر مستشفى المعمداني وليس حركة "الجهاد الإسلامي"، وعاين حقيقة أنّ مستشفى الشفاء الذي داهمه الجنود الإسرائيليون، لا يأوي مقر قيادة المقاومة، بل مرضى مسالمين، جلّهم بين الحياة والموت.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن