الـ"ديستوبيا" مصطلح تعود أصوله اللغوية إلى اللغة اليونانية القديمة، لكنه حديث الاستخدام نسبيًا، إذ كان أوّل من استخدمه بمعناه المشهور حاليًا، المفكّر والاقتصادي جون استيورت ميل، خلال مداخلة له أمام البرلمان البريطاني في العام 1868، ومن بعد ذلك التاريخ بدأت هذه الكلمة في الشيوع رويدًا رويدًا بمعنى مناقض للمعنى الذي تحمله كلمة "يوتوبيا" utopia أو المدينة الفاضلة.
إنّ ظاهرة "المجتمع الفاسد" التي تتجلّى في بعض جماعات البشر، أثارت اهتمام الكثيرين من علماء الاجتماع ، لكنها صارت شائعة جدًا في أوساط النقد الأدبي بعدما أصبحت الـ"ديستوبيا" موضوعًا لعدد كبير من النصوص الأدبية المرموقة والمعروفة.
تتأصّل في بنيته العقلية والنفسية نزعات عنصرية وكراهية للآخر وميل غريزي للاغتصاب واستخدام أقسى آيات العنف
أظنّ أنه لا حاجة لشرح الفروق الجوهرية بين "الشعب" كمفهوم سياسي ينطبق على أفراد مجتمع يتمتّع بمؤسسات سياسية واجتماعية فضلًا عن ثقافة ومبادئ وأخلاق إنسانية تمكّنه من علاج مشاكله وعوراته بدراجات معقولة من الفاعلية، وبين جمهور بدائي خام تتأصّل في بنيته العقلية والنفسية نزعات عنصرية وكراهية للآخر وميل غريزي للاغتصاب واستخدام أقسى آيات العنف ضد من يستهدفه بالاغتصاب، وحيثما تتوافر له وسائل القوة المفرطة التي لا يتردد في استعمالها حتى ضد الأطفال الرضع، لكن هذا الجمهور في الوقت نفسه يبدو شديد الحرص على النأي بنفسه عن دفع أية أثمان أو أن يتكبد أية خسائر، بل يبدي جبنًا شديدًا في معاركه العدوانية، إذ يحرص بشدة على الامتلاك المجاني تقريبًا، لأعتى وأحدث منتجات القتل عن بُعد والتدمير المروع من دون أن يضطر للاشتباك المباشر.
على أنّ هذا الجمهور المنحرف والمهووس في أغلبيته الساحقة، يظل طوال الوقت، راضيًا مرتاحًا للعب دور الخادم المطيع لقوة كبرى تسعى لتأمين مصالحها وتحقيق أهدافها في الهيمنة والسيطرة على مقدرات الشعوب.
هذه هي الصورة التي يسكنها مجتمع العدو الاسرائيلي في نظر أغلبية شعوب العالم، وهي ترى في غزّة هذه الأيام كل هذا التوحش الجنوني والإجرام المتفوّق على أشد الارتكابات همجية وبشاعة في التاريخ الحديث كله، غير أنه لا بد من أن نسأل أنفسنا سؤالًا لا مفر من البحث عن إجابة له، ألا وهو، ما العوامل الراقدة في أحشاء الكيان الصهيوني تلك التي صنعته على هذه الصورة الموغلة في القبح، وكيف تفاقمت واستفحلت هذه الأسباب والعوامل لدرجة تحويله لجماعة بشرية تحمل بين جنباتها كل هذا المقدار المروّع من العفن والبشاعة؟
هذه الأسباب عبارة عن خليط جهنمي، أبرزه الآتي:
أولًا: أنه مجتمع ملفّق أقيم على أرض فلسطين بغير شرعية تذكر سوى حفنة حكايات مزورة وأساطير وخرافات توراتية، لكنه انتصب ككيان مادي في الواقع بقوة الاغتصاب والإرهاب فحسب، بعدما اجتلبت إليه من شتى أصقاع الكوكب، خليط بشري غير متجانس أغلبه لا يعرف شيئًا عن الوطن والبيوت والشوارع والمزارع التي سرقها من أهلها.
من المثير حقًا أنّ الصهاينة المؤسّسين جميعًا تقريبًا، كانوا ملحدين لا يؤمنون باليهودية ولا بأي دين آخر
أسوأ من ذلك، فإنّ عددًا لا بأس به من مكوّنات هذا الخليط هم ممن ادعو كذبًا أنهم يدينون باليهودية طمعًا في مكاسب وامتيازات حصلوا عليها في هذا الكيان الاغتصابي، خصوصًا هؤلاء الذين هاجروا إلى اسرائيل إبان انهيار الاتحاد السوفياتي السابق، والمفارقة الصارخة هنا أنهم يمثلون حاليًا أكثر فئات المجتمع الصهيوني تطرّفًا وإجرامًا!!
ثانيًا: الأساس النظري المفرط في الانحطاط والعنصرية والمتمثّل في الإيديولوجيه الصهيونية التي وظفت بعمد وسوء نيّة سلّة من أساطير وخرافات دينية لا يؤمن بها هؤلاء الذين صاغوها، فمن المثير حقًا أنّ الصهاينة المؤسّسين جميعًا تقريبًا، كانوا ملحدين لا يؤمنون باليهودية ولا بأي دين آخر أصلًا!!.
ثالثًا: انحشار هذا الخليط البشري الذي لا تنتظمه أية روابط تتعلّق بثقافة أو تاريخ مشترك بسبب اختلاف وتعدد البيئات القومية والوطنية الآتين منها، هذا الانحشار أدى إلى صنع كيان اجتماعي شاذ تنتعش فيه ثقافة مشوّهه وأعراض أمراض مجتمعية مزمنة تشبه نفسية اللص، وقد استفحلت مع مرور الزمن وتضخّمت مظاهرها الأخلاقية المشينة فضلًا عن هبوط حاد جدًا في الضمير، وتآكل ملحوظ في مؤهلات الانتماء للإنسانية.
إنه أمر حقيقي يستطيع حتى الأعمى أن يلمسه ويراه، وفي هذا السياق تكفي حقيقة البروز الواضح لملامح وحشية هذا الكيان على نحو ما يشي به انزياح أغلبيّته الساحقة خلال سنوات العقدين الأخيرين، نحو أقصى اليمين العنصري الفاشي والعدواني و.. الجبان أيضًا.
(خاص "عروبة 22")