منذ ما يسمى «الربيع العربي» عام 2011، تعيش المنطقة العربية على خط الزلازل السياسية. دخلت منذ هذا التاريخ سنوات الغليان.
محاولات للفوضى والتخريب لم تتوقف. تحملت الشعوب فواتير هذه اللحظة التي لا تشبه اللحظات التي مرت على المنطقة من قبل، ولا تزال آثارها تتمدد وتتوغل في شرايين دول عربية عدة.
سوريا لا تزال تبحث عن استعادة ملامحها في الإقليم، فقد غابت أكثر من عقد مضى عن محيطها العربي، والعراق ها هو يبحث عن دولته القوية التي كانت تؤثر في سياسة الإقليم والعالم، وها هي ليبيا تعاني التمزيق والصراع على مستقبلها المشترك، بينما السودان يعيش الآن مرحلة سياسية من حرب مزمنة، كان يأمل أن يستعيد عافيته بعد حروب داخلية هددت استقراره السياسي والاجتماعي، وهو البلد الذي كان يجب أن يمثل سلة غذاء للمنطقة العربية.
أما لبنان رئة العرب الثقافية، فيدور في حلقة مفرغة، وغياب لمفهوم الدولة الوطنية، وفراغ في السلطة وكأنه مكتوب عليه أن يعيش في حلقات مفتوحة وسط محيط مضطرب.
إذاً تجربة ما يسمى «الربيع العربي» قاسية، تسببت في تغيير المزاج العربي العام، واستدعت قوى خارجية لكتابة الوصفات العلاجية، بعضها كان عنيفاً يعمل لمصالحه الخاصة، والبعض الآخر كان يعمل في سياق أهداف استراتيجية بعيدة المدى.
أمام هذه الخريطة المتشظية بات العرب في حاجة إلى زيارة جديدة لمستقبلهم، زيارة تنطلق من إعادة ترتيب أوراق المنطقة على أسس جديدة، فلا شك أن هناك نظاماً عالمياً جديداً تبدو ملامحه واضحة للمحلل السياسي الفصيح، والعرب هنا لا بد أن يكونوا رقماً مهماً وفاعلاً في هذه المعادلة الجديدة، فهم يملكون المكان والمكانة من خلال موقع حاكم في قلب العالم، وثروات طبيعية تشكل عصب الاقتصاد الدولي، وميراث ثقافي طويل كان له الدور الحاسم في بناء ثقافة العالم الحية.
بهذه الملامح الصحيحة والحقيقية يمكن للعرب أن ينفضوا عن كاهلهم غبار ما أسميته فوضى الربيع ليكتبوا صفحة جديدة من العروبة الحضارية، الشريكة والفاعلة في عالم يتعدد القوى والثقافات، يتعاون لا يتصادم. بما يمكن المنطقة العربية من التخلص من الحروب الداخلية الصغيرة التي تؤثر سلباً على الاستراتيجية الكبيرة للعرب، حتى لا يكونوا لوحة تنشين للقوى الكبرى.
ورغم كل هذه المخاوف على مستقبل الاستقرار في المنطقة والإقليم فإن الفرصة لاتزال قائمة من أجل بناء نظام عربي جديد يقوم على الانخراط الجاد في الحداثة العالمية، ويتفاعل في نمط الحضارة الجديدة، بما يمكنه من الجلوس في مقدمة مقاعد الكبار في نظام عالمي يتشكل الآن.
فالنظام العربي الحالي تشكل ضمن سياق عالمي أثناء الصدامات الكبرى خلال وبعد الحرب العالمية الثانية، وكما أرى أن نتائج هذه الحرب تتصدع الآن، وتتشكل نتائج أخرى جديدة.
إذاً على العرب أن يكونوا أيضاً فصلاً كبيراً داخل الطبعة الجديدة من هذه النتائج التي تتشكل، فعلينا نحن العرب أن ندرك جيداً أن ماكينة العالم الجديد تدور بسرعتها القصوى وباتت حروبها تقوم على الذكاء الاصطناعي والرقمنة والأسلحة السيبرانية، أو ما أسميه بالحروب الهجينة. وبالتالي فإن معركة الوجود العربي لا تقوم على نتائج وأفكار قديمة بل باستدعاء نمط العالم الحديث، استيعاباً وهضماً وإدراكاً، وأظن أن العرب قادرون ويستطيعون.
أخيراً أقول إنه في اللحظات الفاصلة تستطيع الأمم الحية والحيوية أن تنهض من تحت الرماد وتحلق كطائر العنقاء، وبنظرة فاحصة إلى تجارب الأمم فسنجد أن أوروبا التي اندفعت في حربين عظميين استطاعت أن تنهض وتشكل وحدة أوروبية وقوى عالمية، أي أنها قهرت المستحيل، وكذلك إذا نظرنا إلى اليابان بعد خروجها مهزومة من الحرب العالمية الثانية سنكتشف أنها سطعت في العالم الحديث كقوة اقتصادية جبارة.
والعرب رغم الحروب الصغيرة التي مروا بها لم يواجهوا مثل هذه الحروب التدميرية الكبرى، وبالتالي فهم في حال أفضل من وضع أوروبا واليابان عشية الحرب العظمى، وهنا يمكن للعرب البناء على هذا الإدراك بأنهم يرفعون شعاراً مفاده: «نعم نستطيع».
("البيان") الإماراتية