فاز خافيير ميلي لأنه وعد الأرجنتين بالقطيعة مع الركود الاقتصادي وبدأ إصلاحات غير مسبوقة مثيرة كإلغاء البنك المركزي والعديد من الوزرات الحكومية وجعل الدولار عملة التداول وإلغاء جميع القيود على التجارة الدولية وإلغاء امتيازات الطبقة الحاكمة الحالية، ووُصِفَ أنّه "منشار آلي قادم للسياسة" مما أثار انتباه وسائل الإعلام الدولية إلى فوزه غير المتوقع بالنظر إلى خطابه غير المسبوق، خاصّة أنّه تلقّى ترحيبًا من دونالد ترامب الذي كان أوّل المهنئين، ويصفه خصومه أنه "ترامب الأرجنتين"، لأنّه ليبرالي المرجعية، ومتوّحش سيقضي على كل الامتيازات التي منحها الساسة اليساريون إلى بعض المجموعات.
إنّ خصوم خافيير ميلي اليساريين هم محقون في تخوّفاتهم حيث إن خافيير ميلي قادم للسياسة بحلم جديد، عنوانه القضاء على الامتيازات التي تشكّلت بعد عقود من الحكم اليساري البيروني [Peronism] والعودة بالبلاد إلى فترة العصر الذهبي فترة دستور 1853 الذي أسّست لتحرير الاقتصاد وشهدت بفضلها البلاد نموًا اقتصاديًا عظيمًا إلى غاية سنوات الحرب العالمية الأولى.
تمّ انتخاب خافيير ميلي على خلفية يأس عام من الطبقة الحاكمة التي أدّت إلى ركود اقتصادي طويل
في الواقع شهدت الأرجنتين بين 1853 و1914 العصر الذهبي للرخاء بفضل دستور 1853 الذي اقترح مواده المفكّر الليبرالي خوان باتيستا ألبردي الذي قدّم الحماية الدستورية للحرية الاقتصادية على أساس مبادئ ليبرالية واضحة من قدسية الملكية الخاصّة وحريّة المبادرة وحرية العمل والتجارة الحرّة وغيرها.
وبفضل الإصلاحات الاقتصادية التي شهدتها البلاد في تلك الفترة حقّقت الارجنتين معجزة اقتصادية حيث شهدت الدخل الفردي سنة 1895 ارتفاعًا فاق الدخل الفردي في فرنسا وإيطاليا واليابان وكان أعلى دخل فردي في العالم لتلك السنة، بل حافظت على نسبة نمو اقتصادي بـ6 بالمئة خلال 43 سنة إلى غاية الحرب الأولى، وبين 1900 و1914 شهدت البلاد نهضةً صناعيةً، كانت تضاهي الصناعة في بريطانيا وألمانيا، بل كان في 1896 حوالى 15 بالمئة من السكان الناشطين في الطبقة الوسطى ثم أصبح هناك 40 بالمئة من السكان الاقتصادين ينتمون إلى تلك الطبقة الميسورة الحال.
لكن بالرغم من هذه الفورة الاقتصادية، سوف تتوقّف بعد الحرب العالمية الثانية مع مجيء التيارات الاشتراكية اليسارية للحكم، وخاصّة مع انتخاب خوان دومينغو بيرون (1945-1954) الذي أسّس عقيدة الحزب البيروني، حيث جرى التراجع عن كل المكتسبات الدستورية للحرية الاقتصادية حيث جرى إدخال قيود حكومية على الحرية الاقتصادية وتعاظم دور الحكومة في الاقتصاد، مما تسبّب في نهاية المطاف بالمزيد من العجز والدين العام والتضخم والفساد، وعاين الرأي العام تشكّل عصابات يسارية متحالفة في الحكم تضم رجال الأعمال والنقابات والطبقة اليسارية وخاصّة نساء الرؤساء بين 2003 و2015 الذين لعبوا دورًا كبيرًا في السيطرة على القضاء والصحافة والبنك المركزي لصالحهم.
لقد تمّ انتخاب خافيير ميلي على خلفية يأس عام من هذه الطبقة السياسية والاقتصادية والاجتماعية الحاكمة التي أدّت إلى ركود اقتصادي طويل ووعد بالقضاء على امتيازات الطبقة السياسية الحالية وبتحرير البلد من القيود التي تكبح جماح تقدّمه، وقد صرّح أنه لم يأتِ لـ"يرعى غنمًا وإنما لإيقاظ أسود" في إحالة على تبنّي خيار القطيعة مع سياسة الماضي الريعية الراكدة وبدء سياسة نمو اقتصادي جديد.
نحتاج إلى "خافيير ميلي" عربي بعد أن ينجح في إظهار أنّ الحرية الاقتصادية هي طريق تحقيق الرخاء للشعوب
يقترح خافيير ميلي العديد من الإجراءات المثيرة كجعل الدولار عملة تداول ومنح الأسر حرّية اختيار المدارس وتقييد الإجهاض وإلغاء العديد من الوزرات والتراجع عن سياسات المناخ، لكنّه يحتاج إلى دعم البرلمان حتى يستطيع تمرير إصلاحاته. ولقد بدأ مع فوزه في التخفيف من حدة تصريحاته وبدأ في طمأنة الناس بخطواته وهو يتوقع مقاومة قوية من اليسار النقابي والنسوي حيث يريد تقييد النقابات والإجهاض.
عربيًا، نحتاج أن ينجح النموذج الليبرالي لخافيير ميلي نظرًا لطابعه المحافظ اجتماعيًا، ونحتاج إلى ساسة ليبراليين يجعلون من الحرية الاقتصادية قضيّتهم الأساسية دون التدخل في شؤون الناس الخاصّة وعدم التدخل في خياراتهم التي يتحملون تبعاتها لوحدهم إيجابًا أم سلبًا.
ربّما نحتاج إلى خافيير ميلي عربي في الجمهوريات العربية بعد أن ينجح خافيير ميلي في إظهار أنّ الحرية الاقتصادية هي طريق تحقيق الرخاء الاقتصادي للشعوب وليس التدخلات البيروقراطية في الاقتصاد.
(خاص "عروبة 22")