الفوضى، الاضطراب، الاختلال، الشغب، الكراهية، العداوة، المِحن، البغضاء، الشَّغب، الثورة، الهلاك، جميعها مُصطلحات تحمل في ثناياها معاني سلبية ومقاصد هدامة تُرادف في معانيها ومقاصدها مصطلح الفِتنة أو الفِتن، حال الجمع. والفِتنة بهذه المعاني السلبية والمقاصد الهدامة تعني السعي لإحداث الانقسامات المُدمرة، وزرع الانشقاقات المُهلكة، وخلخلة الصفوف، داخل كل مجتمع عربي، وبين أبناء المجتمعات العربية جميعها، حتى تصبح جاهزة للاقتتال الداخلي ومهيأة لتدمير نفسها بنفسها حتى تصبح قابلة للاستعمار الخارجي بشكل مباشر أو غير مباشر.
والوصول لهذه الأهداف التدميرية يتطلب وقتاً طويلاً، وجُهداً كبيراً، وعملاً احترافياً في قِراءة ومعرفة المشهد العربي من الداخل، وفي اختيار المنهج المُراد تطبيقه، وفي آلية وطريقة ووسيلة التنفيذ داخل كل مجتمع عربي، وبين كل المجتمعات العربية من أقصاها شرقاً حتى أقصاها غرباً.
وبما أن هناك عملاً احترافياً هدفه تدمير المجتمعات العربية من الداخل، فحتماً هناك عمل احترافي في معرفة الطرق والوسائل والمناهج والسلوكيات القادرة على تحقيق تلك الأهداف التدميرية والغايات الهدامة والمتمثلة بشكل فاضح وواضح بزرع ونشر الفتنة داخل كل مجتمع عربي، وبين أبناء المجتمعات العربية وذلك بتضخيم الاختلافات في الرأي وتعميقها وتغذيتها حتى تتجذر الفرقة والعداوة، وتتصاعد الانقسامات والانشقاقات، لتبدأ مرحلة توجيه الاتهامات المتبادلة على مسائل القيم والمبادئ العربية والإسلامية، لتتصاعد بعدها لمرحلة الاتهامات المتبادلة بالتخوين بعدم خدمة القضايا العربية والإسلامية، حتى تصل لمرحلة الأمنيات المتبادلة بأن يحل البلاء والاضطرابات، وتسود الفوضى والاقتتال، ويُدمر كل مجتمع عربي، وتسقط الأنظمة والدول العربية. نعم، إن نشر الفِتنة داخل وبين المُجتمعات العربية منهج وسلوك وسياسة تبنتها وتتبناها المجتمعات والأنظمة والدول الإقليمية والدولية المُعادية سياسياً وأيديولوجياً وحضارياً للمجتمعات والأنظمة والدول العربية.
وذلك المنهج وتلك السياسة المُعادية في نشر الفتنة داخل وبين المجتمعات العربية يتم ويُعمل على تحقيقها بشكل أساسي وكبير جداً في وقت الأحداث والأزمات والنزاعات والصراعات والحروب في المنطقة العربية والإسلامية. فإذا كان الأمر كذلك، فهل من شواهد لِنشر الفتنة في المنطقة العربية في الماضي والحاضر؟ وإذا كان هناك شواهد، فهل من آثار سلبية ونتائج مدمرة لتلك الفتن التي انتشرت داخل وبين المجتمعات العربية، وعلى الأنظمة والدول العربية؟
إذا استرجعنا واستذكرنا تاريخ المنطقة العربية في المرحلة التالية للحرب العالمية الأولى (1914 - 1918م)، نجد أن المستعمر للمجتمعات العربية، والمُعادي لفكرة استقلالها ونيل سيادتها، سعى بكل السُبل والوسائل لنشر الفتنة داخل المجتمع العربي الذي يوجد فيه بهدف تقسيم وحدة صفه لإضعاف قوته وتسهيل مواجهته، وعمل جاهداً لزرع الفتنة بين المجتمعات العربية لإبعاد كل مجتمع عربي عن الآخر لضمان عدم وقوفها ومساندتها لبعضها بعضاً في سعيها للتحرُر وطرد المُستعمر ونيل الاستقلال.
وفي مساعيها لنشر الفتنة، عمل المُستعمر على تقسيم وحدة كل مجتمع عربي باحترافية عالية وذلك بالقراءة العميقة والمعرفة الدقيقة لطبيعة وتركيبة وتوجه كل مجتمع عربي وما يميزه عن الآخر. وهذه القراءة العميقة مكنت المُستعمر من نشر الفتنة باحترافية عالية مستغلاً جهل وحُسن ظن أبناء المجتمعات العربية وعدم معرفتهم بأهداف وغايات عدوهم الذي استطاع أن يجيش بسرية تامة واحترافية عالية أصحاب التوجهات الفكرية والدينية والمذهبية ضد بعضهم بعض وذلك بإظهار الدعم والتأييد لأصحاب كل توجه على الآخر، مثل القوميين ضد الإسلاميين والإسلاميين ضد القوميين، مما تسبب بإضعاف الجبهة الداخلية في المجتمعات العربية لحساب المُستعمر، وأسس لفتنة عظيمة داخل وبين المجتمعات العربية، وما زالت تعاني منها، حتى الآن بسبب تلك الانقسامات التي زرعت قبل مئة عام.
وفي المرحلة التالية للحرب العالمية الثانية (1939 - 1945م) ضاعف المستعمر والعدو أدواته وطرقه السرية والخبيثة لنشر وزرع الفتنة داخل وبين المجتمعات العربية من خلال تجييشه أصحاب التوجهات الرأسمالية والغربية ضد التوجهات الشيوعية والاشتراكية، وفي مقابل ذلك تجييش أصحاب التوجهات الشيوعية والاشتراكية ضد أصحاب التوجهات الرأسمالية والغربية.
ومع إعلان تقسيم فلسطين وتأسيس إسرائيل (1947 - 1948م) تم العمل على تجييش الشعوب العربية ضد أنظمتها وقادتها، وبدأ العمل على زرع الفتنة بين أصحاب التوجهات القومية المُتطرفة ضد أصحاب التوجهات القومية المُعتدلة.
ومع انتهاء حرب يونيو 1967م، انتقلت مرحلة زرع ونشر الفتنة داخل وبين المجتمعات العربية لمرحلة أعلى وأخطر حيث أصبح التجييش على مستوى الأنظمة العربية ضد بعضها بعض بتوجيه تُهم التخوين والعمالة لأحد القطبين العالميين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي. واستمرت هذه الحالة من زرع ونشر الفتنة في حالة تصاعد حتى اكتسبت زخماً قوياً مع الاحتلال الأمريكي لدولة العراق في 2003م، لتنتقل مرحلة زرع ونشر الفتنة داخل وبين المجتمعات العربية لمستويات أشد خطورة وأكثر إنهاكاً وذلك بتقسيم المجتمعات العربية على أساس مذهبي (سني وشيعي) وعلى أساس عرقي (عربي وكردي وغيرهما) وعلى أساس ديني (مسلم ومسيحي ويهودي وغيرها). وحيث إن حالة الانقسام والانشقاق داخل وبين المجتمعات العربية تعززت وتجذَّرت خلال المئة عام الماضية، وتسببت بأضرار عظيمة على وحدة المُجتمعات العربية وتباعد شعوبها عن بعضهم البعض.
إلا أننا في هذا العام 2023م نشهد مرحلة جديدة وغير مسبوقة من مراحل زرع ونشر الفتنة داخل وبين المجتمعات العربية من خلال توظيف العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة الذي بدأ في 7 أكتوبر 2023م. نعم، فعلى خلاف حالة الانقسام والانشقاق والاصطفاف التي حدثت خلال العقود الماضية داخل وبين المجتمعات العربية، إلا أن طريقة وأسلوب نشر وزرع الفتنة داخل وبين المجتمعات العربية، مُنذُ بداية العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، أخذت شكلاً وأسلوباً جديداً وذلك بظهور انقسامات جديدة حول أهمية المسألة من أساسها، وظهور انقسامات في التأييد لأي طرف من أطراف الصراع، وظهور انقسامات في التبعية والتأييد المُعلن لأعداء المجتمعات العربية، وتصاعد حالة التخوين للقضية والاتهام بالعمالة للغرب داخل وبين المجتمعات العربية، وتصاعد أوجه وحالات الاختلاف في الرأي داخل وبين المجتمعات العربية.
فإذا وضعنا هذه السياسات والمناهج المُحترفة في زرع ونشر الفتنة داخل وبين المجتمعات العربية، فإننا نجد الآثار السلبية العظيمة ظاهرة على امتداد الوطن العربي خلال المئة عام الماضية بسبب ما أصابها من فتن عظيمة تم زرعها وتغذيتها ورعايتها حتى تسببت بمآسٍ عظيمة يمكن مشاهدتها داخل وبين المجتمعات العربية.
وفي الختام من الأهمية القول: إن أعداء الوطن العربي - شرقاً وغرباً - وعُملاءهم ومرتزقتهم وتابعيهم، يفتعلون الأزمات ويستغلون الصِراعات لِنشر الفتن وزرع الانشقاقات والانقسامات داخل وبين المجتمعات العربية حتى تصبح الشعوب العربية مُعادية لأنظمتها، وحاقدة على بعضها البعض، وناقمة على مجتمعاتها، وساعية لتدمير نفسها بنفسها. وإذا كانت الأزمات والصراعات التي تشهدها المنطقة العربية فُرصاً عظيمة يستغلها الأعداء لنشر الفتن داخل وبين المجتمعات العربية، فإن وسائل الإعلام المُعادية، وذات التوجهات الأيديولوجية المُتطرفة، تلعب أدواراً عظيمة في تسويق وزرع ونشر الفتن داخل وبين المُجتمعات العربية بصوت عربي، ولغة فصحى، وأسلوب عاطفي، تغيب معه الحكمة وتتصاعد بسببه الفتن والانقسامات والانشقاقات، حتى تصبح جاهزة للاستعمار والاحتلال من قبل أعدائها الإقليميين والدوليين.
("الرياض")