نـقـرأ ذلك، مثـلًا، في هـذا المقـطـع الذي يقـول فـيه: "فقـط، بعـد انـقـشاع الضّـباب، وانـتـهاء عـهـد اليـقـيـنـيّـات الكـبرى، وبعـد هـدوء العاصفـة، يسـتطيـع الفاعـل المـأخـوذ - إذا ما اسـتـعاد بعـضَ النَّـفَـس الـنّـقـديّ - أن يفـحص الملامـح الأخّـاذة لهـذه الملحمـة الآسـرة ليـحاول تبـيُّـن أسباب قـوّتـها وتـأثـيرها؛ ذلك أنّ لحـظـة الانخـراط هـي لحظـة ذوبـانٍ في الكـلّ، وتَـخَـلِّ شبـهِ كـامـل عـن العـقـل الـنّـقـديّ وتعـبئـةٍ شاملـةٍ للوجـدان في اتّـجاه الهـدف أو المثـال. وحالـة الانـذهـال هاتـه لا يمكـن التّـخلّـص منها بسهـولة، أو بمجـرّد قـرارٍ إراديّ؛ إِذْ إنّ آلياتـها اللاّواعيـة تظـلّ راسخـة في النّـفـوس لـمـدّةٍ غير يسيـرة. وفـقـط بعـد أن يستـيـقـظ المـرءُ من سـباتـه الدّغـماتـيّ، يسـتطيـع أن يقـوم بتحليـلٍ استـرجـاعيّ لحالتـه النّـفسيّـة وآليـاتـه الـذّهـنـيّـة واستجـاباتـه الموقـفـيّـة خلال تلك الحـالـة".
أثـبـتْـنـا هـذا المـقـتبـس لأنّـه يضيء مسألـة تلك الصّـلة التي ستـشُـدّ المـؤلّـف إلى سؤال الإيـديـولـوجـيـا، فـتـدفـعـه إلى وضْـع تـألـيـفٍ في الموضوع عـكـف عليه طَـوال سنوات الثّـمانـيـنـيّـات ومطلـع التّـسعيـنـيّـات (صدر في العام 1992). والمـقـتـبـس إِذْ يـحيـل إلى هـذه الحقـبـة - التي هـي حـقـبـة تحـوُّلات هائـلـة في العـالـم انـتـهـت بانهـيـار الاتّـحاد السّـوڤيـيـتـيّ - يحـيل، في الوقـت عـيـنِـه، إلى تجـربـةٍ شـخصيّـة؛ هـي تجـربـة انـغمـاس المـؤلّـف في العمـل الجماعـيّ (الحـزبـيّ)، والتـزامِ ما كانت عـقائـدُ ذلك العمـل السّياسيّ تفـرضـه على المـنـتـمين إليه من الانـتـظام داخـل يـقيـنـيّـات آسِـرة، لا يملك أحـدٌ التّـفـلُّـت من أرباقـها؛ وما كانـتِ الأطـرُ التّـنـظيميّـة (لذلك العـمل) تـقـتـضيـه مِـن تغيـيـبٍ كامـلٍ للـذّاتـيّـة في منظـومـة المجمـوع الحـزبـيّ، ومِـن قـيْـدٍ مضـروب على حـريّـةِ تـفـكيـرٍ لا يَـعـي الحاجـةَ إليـها مَـن هـو في لحـظـة الانـخراط. إنّـه، إذن، منـطـقُ الممارسـة: ذاك الذي يـكْـبَـح الجِـماح، ومـفـعـولُ الإيـديـولـوجـيـا: ذاك الذي يصـنع حالـة الانـذهال والاِنْـئِـخاذ تلك التي تَـأْسِـر الوعـي.
شَغَـل سبيلا شاغلٌ رئيـسٌ هـو الانتـقال من التّحديدات الجزئيّة لمفهـوم الإيديولوجيا إلى تحديدٍ شامل يعـرِّفُـها في كـلّـيّتها
لكنّ البـوْح بـهـذا الباعـث الشّـخـصيّ على البحث في الإيـديـولـوجـيـا ما كـان يـكـفـي المـؤلِّـفَ لتبرير إقـدامـه على تـأليف الكـتاب. كان مـدركـًا ذلك حـين انـتـبـه إلى عـوامـلَ مـوضوعيّـة سـوّغَـت معطـياتُـها المنهـمـرة وضغوطُـها الكـثـيفـة تحـويلَ الإيـديـولـوجـيـا إلى سـؤالٍ للـتّـفـكـير في الـفـكـر الغـربـيّ وتسـوِّغ اليـوم أن تكون مـوضوع تـفـكيرٍ جديد أو متجـدّد. وقد يكون في قلب تلك العوامل انهـيـار المعسـكـر "الاشـتـراكيّ" وانـفـراط الاتّـحاد السّـوڤيـيـتـيّ، وما تـولّـد مـن أحشـاء ذلك الدّمـار من دعـواتٍ مـن قـبيـل ازدهـار الخطـاب عن "نـهايـة الإيـديـولـوجـيـا".
على أنّ سبيـلا ما كان يَـعْـتـاز حـدثـًا كبيـرًا، مثـل ذلك الانـهيـار، لكي يَـنْـهَـمَّ بسؤال الإيـديـولـوجـيـا؛ إذْ تعـود عـلاقـتُـه بالمـوضوع إلى ما قـبل عشريـن عامـًا من نشـره كتابـه: إلى الفتـرة التي كان وعـيُـه فيها واقـعًا - مثـل كـثيـريـن غيـره - تحـت تأثـير فـكـر لـوي ألتـوسيـر؛ خاصّـةً قراءة الأخيـر لـفـكـر ماركـس، وتميـيـزه القطيـعـة المعرفـيّـة في فـكـره (أي ماركـس) بين لحظة الإيـديـولـوجـيـا ولحظـة العلـم؛ ناهيـك بدراسـته (= ألتـوسيـر) الرّائـعـة والتّـأسيسيّـة عن "الإيـديـولـوجـيـا والأجهـزة الإيـديـولـوجـيّـةِ للدّولـة" (1970). لكنّ سبيلا ما لبـث أن وسَّـع من دائـرة مـقـروءاتـه في الموضوع، في ما بعـد، وزاد على مجـال الفـلسفـة وتاريخ الـفـكـر مجالات أخرى مثل الـتّحـليل الـنّـفسيّ والأنـثـروپـولـوجـيا اغـتـنتْ بها معـرفـتُـه الموضوعَ وتـمـتّـنـت؛ وهـو ما يَـلْحـظـه قـارئُ كتابـه عن الإيـديـولـوجـيـا.
شَـغَـل سبيلا في كتابه هذا شاغـلٌ رئيـسٌ هـو الانتـقال من التّـحديدات الجـزئـيّـة لمفهـوم الإيـديـولـوجيا - وتزخر بها دراساتٌ عـدّة في الغـرب - إلى تحـديـدٍ شامل يعـرِّفُـها في كـلّـيّـتـها؛ أي في أبـعادها كـافّة: مجتمعةً لا متفـرّقـة. رائـزُهُ في هذا السّـعي إلى الوقـوف على كلّـيّـة الظّاهـرة الإيـديـولـوجيّة أنّها، مثلما قال، "ظاهرة اجتماعيّـة وثـقافـيّـة وسيكـولوجيّـة وسياسيّـة ومعرفـيّـة وليست فقط سياسيّـة"؛ وهو، بالتّالي، يحاول بذلك إخـراج النّظـر إليها من حيّـز مقارباتها المألوفة والمَـدْروج عليها بوصفها وثيـقـةَ الصّـلة بالسّياسة والسّياسيِّ، أي ببعـدٍ واحدٍ ووحيد من أبعاد الوجـود الاجتماعيّ، فيما هي، عنده، "ظاهرة كـليّة تطال مستويات الوجـود الإنسانيّ كـافّـة".
وهو، في المسعى هـذا، اعترف بما كان لپـول ريكـور من تأثيـرٍ في تـنبيهـه إلى أدوار المَـحْكـيِّ والمتخـيَّـل في تكوين اللّحـمة الاجتماعيّـة، وفي تشكيل وعي الأفـراد والجماعات والشّعورِ بالهـويّـة و، بالتّالي، في إنضاج الفرضيّـة الأساس التي جـرّب الاستدلال عليها: كـليّة الإيـديـولـوجيا، والحاجـة إلى استخدام أدواتٍ معرفـيّـة ومفهوميّـة متعدّدة، مسـتـقـاةٍ من مختـلف مياديـن العلوم الاجتماعيّـة والإنسانيّـة، لبيانها في كـلّيّـتها تلك.
يسلّم بأنّ ماركس "يفكّر في موضوع الوعي والإيديولوجيا من خلال المقولات العلميّة لعصره"
قـد يتـداخل معنى الإيـديـولـوجيا مع معانـيَ أخرى مثل الوهـم أو الأسطورة أو اليـوتـوپـيـا، على نحـو ما وقَـفَ على ذلك بعـضُ الدّرس العلمـيّ لها، غير أنّ التّـداخُـل هـذا، إذا تَـبَـرَّرَ في حـالِ بعضِ المشـتَـرَكـات والتّـشابُهـات، يَـبْـطُل ما إنْ نَـشْـرَع في المُـمَـايَـزَة وفي التّـدقـيق في السّـمات الخاصّـة. ولا مِـرْيـةَ في أنّـه إلى ماركس تعـود تلك المطابـقـةُ التي أجـراها بين الإيـديـولـوجيا والوهـم انطـلاقًا من نظرتـه إليها بوصفها وعيـًا خاطئـًا غيرَ موضوعيّ أو غيرَ مطابـقٍ للواقع. إنّـها نظـرٌ إلى الأشياء بنظّـارات خاصّـة بالموقع الطّـبقـيّ للنّـاظـر؛ هذه التي تـتغـيّـر فيها الرّؤيـة بتـغـيُّـر مواقـع النّظـر. ومحمّـد سبيلا، هنا، يوافـق ريـجيـس دوبريـه في ما ذهب إليه هذا الأخيـر - بيـانًا منه لقصور نظرة ماركس إلى الإيـديـولـوجيا - حين يسـلّم (= سبيلا) معه بأنّ ماركس "يفـكّـر في موضوع الوعـي والإيـديـولـوجيا من خلال المقولات العلميّـة لعصره، وخاصّـةً مقـولات البصريّـات (ظاهرة الانكسـار) وعلم الميكانيـك والتّصويـر"؛ لذلك "ورث مع المفهـوم مدلـولـه القـدحيّ، وهو الذي ظلّ طاغـيّـاً في تفـكيـره وخاصّـةً في مرحلة الشّباب": حيث كان ما يزال متأثّـرًا بفلسفة الأنـوار التي ورث عنها المفهـوم في مـدلـوله ذاك.
من البيّـن أنّ الملاحظة الأخيرة هـذه تستعـيـد حُـكْـمًا أطلقه لوي ألتوسيـر على فـكـر ماركس الشّـابّ، مفادُه أنّـه كان إيـديـولـوجيًا قبل أن يقـطع معه قطيعـة إيـپـيـستيمولوجيّـة في مرحلة النّـضج. لكـنّـها، في الوقت عيـنِـه، لا تـنـتـبه إلى أنّ هذا المفهوم الماركسيّ - الدّائر في نطاق التّـحديد الإيـپـيـستـيمـيّ وثـنائـيّـة: الخطـأ/الصّـواب - لا يمـثّـل مجمَـل نظرة ماركـس إلى الإيـديـولـوجيا؛ ذلك أنّ هذه النّـظرة اغتـنـت مع الزّمن أكـثـر، ولاَمَـسَـتْ أبعاداً أخـرى في الظّـاهرة لم يقـع الانتباهُ إليها حين كـتب الإيـديـولـوجيا الألمانيّـة في أواسط أربعيـنـيّـات القرن التّـاسع عـشر.
لقراءة الجزء الأول: الإيديولوجيا في التّأليف العربيّ (3/1)
لقراءة الجزء الثاني: الإيديولوجيا في التّأليف العربيّ (3/2)
(خاص "عروبة 22")