لا بد من التّذكير، هاهنا، أنّ هذه المشاهد تؤسّس لسيمياء الصورة الغائبة للحقيقة من خلال رسمها لطرفين متقابلين. الطرف الأوّل يتّصل بالواقع المطموس من طرف الغرب الذّي كشفته صور تسليم الأسرى من جهة "حماس" ممهورة ببلاغة الرّحمة وحجج الرِّفق، وفقًا لمرجعية إسلامية لها شرائعها الأخلاقية والإيديولوجية. أمّا الطّرف الثّاني فهو مرتبط بوجدان الأسرى وهم يعبّرون بتشكّراتهم وتحيّاتهم لجنود "حماس" عن تعاطف أخلاقي أساسه الاعتراف بسموّ السّلوك الإنساني لـ"حماس" حيال أسراهم، على عكس الوحشية الإسرائيلية مع الأسرى الفلسطينيين.
استطاعت هذه المشهدية بتفاصيلها، أن تُحدث اليوم خلخلة بنيوية من داخل الحجّيّة الأمريكية وهي تناصر إسرائيل وتقدّم لها دعمها الواسع. لقد استطاعت فعلًا تسويق هذه الحجّية في العالم على خلفية اعتبار المقاومة الفلسطينية بمشاربها المختلفة، خاصة "حماس"، إرهابية هدفها الإبادة الجماعية لليهود ومعاداة الغرب والرّجل الأبيض.
حتمية التّاريخ شاءت عبر مشهدية تبادل الأسرى أن تسقط حجيّة أمريكا والمنظومة الأخلاقية الغربية التي انكشف زيفها
لم يقف فعل التّسويق بجعل هذه الحجّية لازمة يردّدها خلق عظيم ممن يعتقد أنّه حداثي، بمهاجمة العرب والإسلام، ولكن بخلق ثنائية ضدّية تتكوّن من المركزية العليا، وهي المركزية الغربية، والهامش السفلي مكوّن من العرب والمسلمين. ومن ذلك، ظهر تقسيم فجّ ومغلوط يقابل الحداثة التّي تخصّ كل ما ينتجه الغرب وما تقرّه منظومته الأخلاقية، بالقدامى التّي رُبطت بالتخلّف والهمجية، وهي صفات وأفعال خُصّص بها، قَصدًا، العرب والمسلمون دون غيرهم.
كان الهدف من هذا التّقسيم، الذي انحاز إيديولوجيًا إلى نوع من المعرفة، خلق تراتبيات عرقية ودينية تمهيدًا إلى توطيد "العرق المطلق" و"الدّين المطلق" ممثّلين في اليهودية. وقبل أن يكون المدخل إلى ذلك سياسيًا، كان أخلاقيًا ترتّب عنه خلق منظومات قانونية ماكرة يُعبّر عنها ما أطلق عليه "حقوق الإنسان" و"القوانين الدّولية". بدليل أنّ أبشع المجازر التّاريخية والتّجاوزات الفادحة لحقوق الإنسان في غزّة التّي لم تشهد لها الإنسانية مثيلًا، وقعت أمام مرأى ومسمع المنتظم الدّولي الذّي يرعى هذه الحقوق ولم يستطع أن يحرّك، قيد أنملة، أيّ إجراء أمام جبروت إسرائيل واستعلائها المقيت.
لكن حتمية التّاريخ شاءت عبر مشهدية تبادل الأسرى بين "حماس" وإسرائيل، أن تسقط حجيّة أمريكا ومعها المنظومة الأخلاقية الغربية التي انكشف زيفها بفعل ذكاء الإعلام الحربي لـ"حماس" الذي وثّق للحقيقة فأظهر أنّ المقاومة الفلسطينية ليست إرهابية ولا همجية، وإنّما هي مقاومة مجيدة ساعية إلى استرداد أرضها المغتصبة، وأنّ لجوءها إلى السّلاح خيارها الأخير بعد استنفاد كلّ طرق الحوار وإمكان السّلام.
استطاع الغرب من خلال هذا الكيان المصنوع أن ينجح في تجسيد أبشع الهمجيات والعدوان في العرب والمسلمين وثقافتهم
أصبح العالم الذي انطلت عليه، سابقًا، حيل أمريكا وأكاذيب إسرائيل أمام واقع آخر تطل منه الحقيقة التّي تم حجبها لسنين، أنّ العرب والمسلمين ومن خلالهم "حماس" وفصائل المقاومة الفلسطينية ليسوا بالحوش ولا بالإرهابيين، وإنّما هم أصحاب قضية عادلة يقدّمون من أجلها أرواحهم هديّة. وبذلك، فهم ليسوا بالحاقدين ولا بالمجرمين، وليسوا بـ"داعش" التّي خلقتها المختبرات الأمريكية وبمباركة إسرائيلية، وقد استطاع الغرب من خلال هذا الكيان المصنوع أن ينجح في تجسيد أبشع الهمجيات والعدوان في العرب والمسلمين وثقافتهم.
إنّ سلوك "حماس" مع أسراها الإسرائيليين أسقط السرديّة المركزية الغربية بخصوص دونية العرق العربي والدّين الإسلامي. وقابل بذكاء إعلامي، غير مسبوق، المنظومة الأخلاقية الغربية والإسرائيلية بالمنظومة الأخلاقية العربية والإسلامية ليترك للعالم الحرّ وحده صلاحية الحكم.
(خاص "عروبة 22")