وجهات نظر

السوريون والسياسة: من الجداول إلى النهر (2/2)

وسط الواقع المعقّد والصعب، تابع السوريون مساراتهم باتجاه اختيار الأطر النظرية والسياسية والبنى التنظيمية، والتكتيكات السياسية، التي من شأنها إخراجهم مما صاروا إليه وكيانهم الوطني من كارثة متعددة الأبعاد والمستويات، وقد سارت الأمور في ثلاثة مسارات عامة، الأول الحفاظ على ما هو قائم والسعي الى تطويره على نحو ما ظهر في تجربتَيّ الائتلاف الوطني السوري وهيئة التنسيق الوطنية.

السوريون والسياسة: من الجداول إلى النهر (2/2)

ورغم فشل العديد من تجارب التحالفين في التوسّع وزيادة الفاعلية والتمثيل لأسباب متعددة، فإنّ الكادرات الأولى والفاعلة في كليهما، ما زالت مصرّة في مساعي الإبقاء على هيكلها بما هو عليه سواء تحت فكرة الاعتراف الدولي الذي يحظى به الائتلاف في تمثيل السوريين، وهو اعتراف ميت منذ وقت طويل، أو بحجة التمثيل الأوسع والتاريخ النضالي الذي توصف به هيئة التنسيق، ومن غير المنتظر، أن يحدث تبدّل عام جوهري وعميق في الإطارين في وقت قريب.

وينطبق واقع الحال في التحالفين السابقين على الأحزاب والجماعات السياسية القديمة، وتتجسّد أبرز تعبيراتها في حزب الشعب الديمقراطي وجماعة الإخوان المسلمين، وحزب الاتحاد الاشتراكي الديمقراطي العربي، وكان الأوّلان في النواة الصلبة للمجلس الوطني ثم الائتلاف، فيما كان الثالث، الحزب الرئيس في هيئة التنسيق، وكل منهم منسجم مع سياسة ومسار الإطار التحالفي الذي اختاره.

والمسار الثاني من مسارات السوريين، هو خلق أطر جديدة سواء على مستوى الجماعات والأحزاب السياسية أو على صعيد التحالفات، التي تجمع بين جماعات وشخصيات مستقلة، وللحق فإنّ هذه الظاهرة في الحياة السورية، تكاثرت في السنوات القليلة الماضية في بلدان الشتات وفي الداخل السوري، فكانت أطراف من مختلف التيارات السياسية وفيها التيار الوطني/الديمقراطي والليبرالي إضافة الى الإسلام السياسي وغيره، وغالبًا فإنّ أغلب الأطر إن لم نقل كلّها، تضمّ كتلًا إسلامية سواء نتيجة تسلّل كادرات وأعضاء من الإخوان المسلمين إليها للعمل في داخلها، أو بفعل وجود إسلاميي التغيير فيها، والأخير اتجاه تم توليده وتأسيسه في سوريا في فترة ربيع دمشق قبل عقدين.

ثمة روح نقدية في الوسط السوري تنقد التجربة التاريخية للأحزاب والجماعات السياسية والتحالفات التي أنتجتها الثورة

المسار الثالث في مسارات السوريين، تمثّل في تأسيس جماعات وتحالفات لها طبيعة سياسية-عسكرية مختلطة، وهي فكرة جديدة في الواقع السوري، بدأت بوادرها مع عسكرة الثورة وتسليحها، وولادة الجماعات المسلّحة، وبعض هذه الجماعات ذهب بحذر، وبعضها بخجل، إلى تشكيل مركز سياسي فيها، أخذ مسمى هيئة سياسية أو مكتب سياسي أو نحو ذلك، يتبع القيادة العسكرية، ويعود أساس الفكرة ومثالها الأول إلى حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي (PYD) الذي تأسّس عام 2004 بوصفه تعبيرًا إيديولوجيًا وتنظيميًا عن حزب العمال الكردستاني التركي (PKK)، ولأنّ الأخير كان حزبًا مسلّحًا، فقد بدا من الطبيعي، أن يكون تعبيره السوري حزبًا مسلّحًا، وجاءت ثورة السوريين والعسكرة لتدعم هذا التوجه، وتجعل الحزب أولًا في تجربته العسكرية سواء الخاصة في وحدات حماية الشعب، أو في الإطار الجبهوي الذي يقوده والمعروف باسم مجلس سوريا الديمقراطية (مسد) وقواته المسلّحة المسماة قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، والتي تسيطر اليوم على شمال شرق سوريا بمساحة تقارب ثلث مساحة البلاد.

وتبدو آثار هذه التجربة حاضرة في محيطها وفي الأبعد منه. فقد لجأت بعض الأطراف المشاركة في (مسد) أو الحليفة، ومنها الأشوريون، إلى تأسيس جماعات مسلّحة بينها المجلس العسكري السرياني التابع لحزب الاتحاد السرياني، وهو جزء من (قسد) ومثله قوات حماية نساء بين النهرين الرديفة للمجلس العسكري، وهناك حراس الخابور والناطورة التابعان للحزب الديمقراطي الآشوري، وكلاهما في المجلس العسكري الآشوري ومشاركان في (قسد).

لقد شكّل المجلس الوطني الكردي الذي يضم جمعًا من الأحزاب والشخصيات المستقلة إطارًا عسكريًا تابعًا من كرد سوريين في شمال العراق، وفشلت جهوده في إدخالها إلى سوريا نتيجة معارضة (PYD)، واتجه المجلس العسكري الذي أطلقة العميد المنشق مناف طلاس إلى تأسيس حركة التحرير الوطني قبل أشهر تعبيرًا عن مساعي الدمج بين السياسي والعسكري في التجربة الجديدة، وهو اتجاه حاضر بصور متعددة في تجارب الجماعات والتحالفات حديثة التشكيل، حيث يشارك العسكريون المنشقون في تأسيس ومسار تلك التجارب.

ولاجل مزيد من إيضاح اللوحة العامة للنشاط السياسي السوري، لا بد من إشارات سريعة إلى خلاصات في إجمالي التجربة الحالية، أبرزها أنّ ثمة روحًا نقدية في الوسط السياسي السوري، تنقد التجربة التاريخية للأحزاب والجماعات السياسية والتحالفات القائمة وخاصة الإخوان المسلمين وحزب الشعب الديمقراطي ذي الأصول الشيوعية، كما تنقد تجارب التحالفات التي أنتجتها تجربة الثورة السورية، والنقد يركّز على التجربة وعلى الأشخاص ممن تصدوا للمسؤولية والقيادة.

والخلاصة الثانية تتبدى في اختلاطات سياسية ما بين المنتمين إلى المعارضة والمنتمين للثورة، وثمة ميل واضح إلى تأكيد عجز المعارضة، وأنّ العمل السياسي ملقى على عاتق المنتمين للثورة.

وثمة خلاصة ثالثة، تشير إلى انكفاء واضح لقدامى النخبة السياسية وقياداتها مع تقدّم ذوي الأعمار المتوسطة والكادرات حديثة التكوين.

والخلاصة الرابعة، تبدو في توسّع دور النخبة السياسية في الخارج، وهذا لا يتصل فقط بحجم اللاجئين والمهجرين في الشتات، بل أيضًا بتنامي قدراتهم من جهة، واقترانه مع حرية التفكير والحركة، التي يتمتعون بها مقابل مَن هُم في الداخل.

تم تقاسم سوريا بين ثلاثة من سلطات الأمر الواقع التي تجد لها دعمًا ومساندة إقليمية ودولية

وسط واقع العمل السياسي وخلاصاته، يأتي السؤال الطبيعي عن صلته بأهداف السوريين ومساعيهم في تجاوز الوضع الراهن، ليس في ترديات حياتهم فقط في الداخل وفي أغلب الشتات، وإنما في احتمالات كيانهم ولا سيما تقسيمه، خاصة وقد تم تقاسم سوريا بين ثلاثة من سلطات الأمر الواقع التي تجد لها دعمًا ومساندة إقليمية ودولية، وكلاهما جزء من التحدي الأول الحاضر أمام السوريين في مساعيهم من أجل سوريا متحرّرة من نظام الأسد، يقوم فيها نظام ديمقراطي، يوفّر الحرية والعدالة والمساواة لكل السوريين، ويتشارك العمل مع قوى الحرية والعدالة والتقدّم في الإقليم والعالم.

إنّ الخطوة الأولى والضرورية في الطريق نحو الهدف، تكمن في إجراء مقاربات بين الجماعات والتحالفات على برنامج أساسه الحل السياسي في سوريا، ولعل الأقرب في هذا السياق قرار مجلس الأمن الدولي 2254 الصادر في العام 2015 والذي يرسم مسار الحل السياسي للقضية السورية، ويضع سوريا والسوريين على قاعدة وحدة الشعب والكيان، وتصفية تداعيات الصراع، ومنها قضايا المعتقلين والمختفين قسرًا وعودة اللاجئين، وعملية إصلاح تشمل خاصة الأجهزة الأمنية والعسكرية، وتطبيق العدالة الانتقالية، واستعادة الحياة السورية إلى طبيعتها ضمن موافقة وتوافقات ومساعدة دولية وإقليمية، وتحوز هذه المحتويات موافقة الأغلبية السورية، وهذا أمر يمثّل استجابة من الصعب أن يحوز عليها أي مشروع حل آخر.

التفاهم حول مشروع الحل السياسي، ممثّلًا بالقرار 2254، مدخل لإحداث نقلات جوهرية في واقع سوريا والسوريين

إنّ توحيد السوريين أو أغلبيتهم حول القرار 2254، ورسم مسارات تفاعلية مع القوى الفاعلة في القضية السورية، وعزل الأخيرة عن الصراعات والخلافات القائمة بين الأطراف الإقليمية والدولية من شأنه تحسين البيئة المحيطة بالقضية السورية، مما يشكل مع عوامل أخرى ضغوطًا، تكسر حدة معارضة نظام الأسد للحل ومماطلته في الموضوع، واجباره على الانضواء في جهود الحل السياسي.

خلاصة القول، إنّ الجهود السياسية في سوريا، تمثّل جهودًا متعددة مختلفة اليوم، وهي ثمار طبيعية لإرث وتجارب لها أعماق موضوعية وذاتية، وإنّ هذه الجهود تسعى من منطلقات تستمد أغلبها من واقع السوريين واحتياجاتهم الراهنة والمستقبلية، والأهم فيما هو المطلوب اليوم، يبدو في إجراء مقاربات في المستويين السياسي والتنظيمي، لتشكيل قوة فاعلة تعيد السوريين إلى مكانهم المؤثّر في قضيّتهم، ويشكل التفاهم حول مشروع الحل السياسي، ممثّلًا بالقرار الدولي 2254 والسعي لتنفيذه، مدخلًا لإحداث نقلات جوهرية في واقع سوريا والسوريين حاليًا وفي المستقبل.


لقراءة الجزء الأول: السوريون والسياسة: طبيعة المشكلة وجذورها (2/1)

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن