منذ بداية عملية طوفان الأقصى وما تبعها من عدوان إسرائيلي غير مسبوق على قطاع غزة، يقوم وزير الخارجية الأمريكي توني بلينكن بدور أكثر أهمية وأكثر فاعلية من وزير الخارجية الإسرائيلي، فيما يتعلق بتبرير الممارسات الوحشية لجيش الاحتلال والدفاع عن أكثر الحكومات يمينية في تاريخ إسرائيل أمام المحافل الدولية. كما لم يترك بلينكن جهة أو مؤسسة دولية أو إقليمية إلا وضغط لتبني مواقف أحادية تحابي الجانب الإسرائيلى دون أي اكتراث لاستشهاد ما يقرب من 20 ألف شخص، ومعاناة لا تتوقف لأكثر من مليوني فلسطيني أكثرهم من الأطفال والنساء.
تحدث بلينكن لكل وسائل الإعلام المحلية بواشنطن مروجا للموقف الإسرائيلي في الداخل الأمريكي، كذلك ترأس وفد بلاده في اجتماعات الدول السبع في طوكيو باليابان، وشارك في اجتماع وزراء خارجية دول حلف الناتو في بروكسل، وفي قمم أوروبية مختلفة، بل وفي اجتماعات مجلس الأمن الدولي بنيويورك، وأمام كل هذه المحافل الهامة كرر وبرر بلينكن لإسرائيل حقها «في الدفاع عن نفسها»، ولم يتطرق إلى معاناة وخسائر الشعب الفلسطيني، فقط أشار إلى «حثه» حكومة بنيامين نتنياهو على ضرورة تقليل عدد الضحايا في صفوف السكان المدنيين الفلسطينيين.
لإسرائيل وزير خارجية اسمه «إيلي كوهين» لم أسمع عنه كثيرا منذ السابع من أكتوبر الماضي، وقد يكون ذلك منطقيا في وقت يقوم فيه وزير الخارجية الأمريكي متطوعا بأغلب مهام إيلي كوهين. ولا يخفى على القرّاء ضعف اللياقة الذهنية للرئيس جو بايدن مع استمرار سقوطه في هفوات وتلعثم يرتبطان بشيخوخة كبر السن، إذ تخطى الحادية والثمانين الشهر الماضي، ومن هنا يدرك جميع العالمين ببواطن الأمور في واشنطن أهمية دور مساعدي بايدن الرئيسيين في تشكيل وتقرير سياسة بلادهم تجاه الأزمات الكبرى، وعلى رأسها أزمة العدوان الإسرائيلي على غزة.
في العدوان الحالي على قطاع غزة، لم يطرح الدبلوماسي الأمريكي الأول أي أفكار تتناول وقف إطلاق النار وإنقاذ حياة الآلاف من المدنيات والمدنيين الأبرياء، والسماح للحراك السياسي والتفاوض بالتوصل إلى أي مخرجات يتوقع أن يحسمها القتال بما فيها حتى فكرة القضاء على حركة حماس ذاتها أو استسلام قادتها، على الرغم من عدم واقعية هذا الطرح.
قاوم بلينكن منذ اللحظات الأولى أي دعوات للضغط على إسرائيل من أجل وقف إطلاق النار، بل لم يضع أي خطوط حمراء إذا تخطتها إسرائيل قد يتبعها خفض المساعدات العسكرية المتدفقة إليها، أو حتى قطعها.
الرسالة التي أرسلتها الدبلوماسية الأمريكية بوضوح هي أنه لن تكون هناك عواقب على الحكومة الإسرائيلية بغض النظر عما تفعله في غزة من قتل وترويع والقضاء على مسببات الحياة، ولم تستخدم واشنطن نفوذها القوي على الحكومة الإسرائيلية للحد من الضرر الذي يسببه هذا العدوان، لكنها بدلا من ذلك تتخلى عن مسؤوليتها، وهو ما يمثل وصمة عار إضافية على سمعة أمريكا حول العالم.
نعم تجمع إسرائيل وأمريكا علاقات خاصة ومعقدة ومتشابكة وقوية، إلا أن ذلك لا يعني في مجال العلاقات الاستراتيجية بين الدول أن تتخلى الدول عن كُروتها على مائدة التفاوض حتى مع أقرب حلفائها، إلا أن واشنطن حيدت بديل الضغط على إسرائيل في التعامل معها، واستبدلت ذلك بكلمات فضفاضة مثل «حث إسرائيل» أو «نتوقع من إسرائيل» حتى عندما يتعلق الأمر بأفعال تصنف كجرائم حرب أو انتهاكات مؤكدة للقانون الدولي. ويمكن للولايات المتحدة استخدام النفوذ الكبير الذي لديها لكبح جماح الحكومة الإسرائيلية إن أرادت، لكن الإدارة لا تريد ذلك بسبب مزيج من غياب الخيال وسوء الحسابات الانتخابية والارتباط الأيديولوجي والمشاعر، وربما العنصرية.
فى أي علاقة بين دولة كبرى ذات مصالح حول العالم مثل الولايات المتحدة، ودولة يراها البعض وكيلا إقليميا لهذه القوة الكبرى، يكون من غير المسؤول استبعاد قطع المساعدات العسكرية، ويكون من غير المسؤول السماح لهذه الدولة بفعل ما تريد بالأسلحة الأمريكية. ولا ينبغي للولايات المتحدة أن تساعد وتحرض حكومة أخرى عندما ترتكب جرائم حرب، ناهينا عن منحها شيكا فعالا على بياض لاقتراف ما تريد من جرائم، إلا أنه خلال زيارات بلينكن المتكررة لإسرائيل منذ 7 أكتوبر، كان الهدف الأهم لوزير الخارجية الأمريكي إفساح المجال لإسرائيل لتدمير حماس دون توسيع نطاق الصراع جغرافيا خارج قطاع غزة، ودون اكتراث بتكلفة هذه الفكرة من سقوط آلاف الضحايا من المدنيات والمدنيين الأبرياء.
البعض يرى بلينكن موظفا بيروقراطيا مثاليا بارعا، وهو مساعد قضى معظم حياته مساعدا مخلصا لجو بايدن، ووصل إلى أقصى ما يحلم به كوزير للخارجية، وليس له أي طموحات مهنية أخرى. وصل بلينكن لمنصبه بسبب قربه من بايدن، ولعدم خروجه عن النص المسموح به في واشنطن. وصل بلينكن لمنصبه بدون رداء الجنرال مثل الوزير كولين باول، ولا بالشهرة الاستراتيجية لهنري كيسنجر، وبدون الطموحات الرئاسية لهيلارى كلينتون.
بدأ بلينكن، البالغ من العمر الآن 61 عاما، حياته المهنية ككاتب رئيسي لخطابات السياسة الخارجية في مجلس الأمن القومي في عهد الرئيس بيل كلينتون، وشغل لاحقا منصب مدير الموظفين عندما كان بايدن أكبر ديمقراطي فى لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ، ثم عمل مستشارا للأمن القومى لبايدن ونائب وزير الخارجية خلال إدارة باراك أوباما، ثم كبير مستشاري السياسة الخارجية في حملة بايدن لعام 2020.
في زيارته الأولى لإسرائيل عقب هجمات حركة حماس، قال بلينكن في تل أبيب، بينما وقف إلى جواره بنيامين نتنياهو، رئيس وزراء إسرائيل: «أود أن أذكر شيئا شخصيا، أنا لا أقف أمامكم اليوم كوزير لخارجية الولايات المتحدة فحسب، بل أيضا كيهودي. لقد فر جدي، موريس بلينكن، من المذابح في روسيا. ونجا زوج والدتي، صامويل بيسار، من معسكرات الاعتقال في أوشفيتز». وأضاف: «أقف أمامكم اليوم أيضا كزوج ووالد لصغار يافعين. لا يسعني النظر إلى صور الأسر المقتولة بدون التفكير في أطفالي، تماما كصورة الأم والأب والأطفال الثلاثة الصغار الذين قتلوا فيما كانوا يحتمون في منزلهم في كيبوتس نير عوز».
أما خلال زياراته المتلاحقة لإسرائيل والضفة الغربية، لم يشر بلينكن إلى معاناة أطفال غزة الذين قتل منهم الآلاف بسلاح وذخيرة أمريكية توفرها إدارته لأكثر الحكومات تطرفا في تاريخ إسرائيل. وعلى العكس مما هو متوقع من أرفع دبلوماسي أمريكي، أكد بلينكن في آخر زياراته لإسرائيل يوم 30 نوفمبر الماضي، والتي شهدت مشاركته في اجتماعات مجلس الحرب الإسرائيلي، أن «إسرائيل لديها واحد من أكثر الجيوش تطورا في العالم»، وإنها «قادرة على تحييد التهديد الذي تشكله حماس مع تقليل الضرر الذي يلحق بالرجال والنساء والأطفال الأبرياء. وعليها التزام بالقيام بذلك». لكن خلال الـ48 ساعة التالية لمغادرة بلينكن، قتلت إسرائيل ما يقرب من ألف من أهالي غزة أغلبهم من الأطفال الأبرياء.
("الشروق") المصرية