وجهات نظر

فلسطين.. "القربان الديني" للحركة الصهيونية

يمثُل الصّراع العربي الإسرائيلي اليوم حدث الساحة بدون منازع، وإن كان يبدو في ظاهره صراعًا متعدّد الأبعاد، لكنّه في العمق، هو صراع ديني بالأساس، لكن ليس من طرف الفلسطينيين أو من منظور إسلامي كما يتمّ الترويج له، وهو ترويج تغذّيه ظاهرتنا اللغوية الخاصة بالحرب (التكبير، التّغني بالاستشهاد، الحمد رغم المآسي، الدعاء العلني، الابتلاء الإلهي/الاصطفاء الاسلامي)، إنّما هو صراع ديني إسرائيلي فُرض على أرض فلسطين التي صارت القربان الجغرافي لتحقّق الوعد الصهيوني وليس اليهودي، لأن اليهودية التقليدية لم تعرف مسارًا صهيونيًا، فما الذي يعينه ذلك؟.

فلسطين..

إنّ الراصد للتاريخ الإسرائيلي يلاحظ تصاعدًا لسيطرة اليمين المتطرّف وتغلغله في العمق الإسرائيلي منذ سبعينيات القرن الماضي، فما نعاينه اليوم يختلف تمامًا عن التجربة الاستيطانية التي تمت برعاية الانتداب الانجليزي، تجربة تعكس صيرورة متصاعدة نحو التديّن السياسي أو السياسية الدينية، حيث الجانب الديني الصهيوني يتزايد بشكل جنوني وهوسي في جميع هياكل الدولة، فمنذ عام 1967 سوف تتغيّر بوصلة التوجّه السياسي الإسرائيلي نحو مزيد من تديّن الدولة، بل سيشكّل اليمين المتطرّف قاعدة شعبية مهمة له داخل الأوساط اليهودية، ليُصبح نمط وجود يصعب تغييره في الأفق القريب أو حتى إيجاد معارضة تزيحه عن دائرة الحكم، لأنّه يمثّل كافة التيارات الدينية داخل الحركة الصهيونية، بل يُعتبر عرّاب وضامن المشروع الاستيطاني في فلسطين، وكذا الداعم لاستمرار إسرائيل كدولة يهودية.

مسألة "حلّ الدولتين" أحالتها إسرائيل بشكل تدريجي لحل غير ممكن تحت الرعاية الصهيونية

هذا معطى ينعكس على طبيعة الصراع العربي الإسرائيلي الذي صار يسير في خطى صراع ديني تتزعّمه إسرائيل، فالصهيونية الدينية المتشدّدة استطاعت أن تشكّل التيار الغالب في المجتمع الإسرائيلي، مما حوّل إسرائيل من طموح دولة تضمن لليهود وطنًا إلى دولة تسعى لتحقيق الوعد الديني اليهودي على أرض بعينها دون غيرها، وهو فكر يُغدي الاستيطان كضرورة لتحقّق الوطن اليهودي، بدعوتها لفرض السيادة الإسرائيلية على الضّفة الغربية وقطاع غزّة ومن تم تحقّق اللحظة التاريخية لإعلان فلسطين التاريخية الخاصة باليهود. ألا يعني ذلك أنّ مشروع الصهيونية هو القضاء على الوجود العربي داخل فلسطين التاريخية، وبالتالي استبعاد "حلّ الدولتين" بشكل نهائي؟

إنّ "حلّ الدولتين" الذي لا زال يُستنجد به كحلّ للصّراع العربي الإسرائيلي، لم يعد ممكنًا، بل يمثُل في الغالب ستارًا لتمرير الوهم وربح المزيد من الوقت، خصوصًا وأنّ إسرائيل ماضية في مسارها الصهيوني، بدعم غربي، فالتطهير العرقي والتهجير ومحاولة فرض السيطرة على شمالي قطاع غزّة هي استكمال للمشروع الصهيوني وإرضاء لتوجهات اليمين المتطرّف الإسرائيلي، إذ مسألة "حلّ الدولتين" قد أحالتها إسرائيل بشكل تدريجي ووِفق مسار تاريخي مهيكل لحلّ غير ممكن أو على الأقل صعب التسليم به تحت الرعاية الصهيونية.

الوضع الجغرافي الحالي التي لا زالت تعمل إسرائيل بخطى حثيثة على تغييره، جعل من "حل الدولتين" حلًا غير ممكن، فهي ستواصل عملية الاستيطان وعملية الترحيل ولو عبر مراحل، فالمشروع الصهيوني سيظل ماضيًا في تحقيق طموحه الديني ما دام اليمين المتطرّف متجذرًا في العمق الإسرائيلي.

الصراع لا يمكن أن يُحَلّ من منظور الصهيونية إلا باستبعاد أبناء اسماعيل من أيّ حضور في "أرض الميعاد"

إنّ ما يرسمه هذا العنف والاستمرار بالحرب، بل وحتى الاستهانة بحياة الأسرى اليهود لدى حركة "حماس"، يترجم رغبة قوية لليمين المتطرّف الإسرائيلي في تحقيق التوجه الصهيوني على أرض الواقع واستغلال أحداث 7 أكتوبر/تشرين الأول لتغطية التنظيرات الخاصة بهذا التديّن الشّرس، ومحاولة حلّ الصراع العربي الإسرائيلي وِفق التوراة عبر نفي كل المقدّسات التي ترمز للحضور العربي في فلسطين.

الصراع القديم بين إسحاق وإسماعيل، كما أشار إلى ذلك فوزي البدوي المفكّر التونسي المتخصّص في الفكر اليهودي، لا زال مستمرًا ولا يمكن أن يُحَلّ من منظور الصهيونية، إلا باستبعاد أبناء اسماعيل من أيّ حضور في "أرض الميعاد"، استبعاد ورثة اسماعيل عبر نفي أي حضور لهم في بلاد فلسطين، فشهادة ملكيّتهم لدولة فلسطين لا تأتي من الشرعية الدولية وإنما من الشرعية الدينية (التوراة) كأساس يمنح اليهود الحق في إقامة وطن قومي بفلسطين، لهذا، فإنّهم لا يهتمون بما تُمليه المواثيق الدولية في هذا الباب، لأنّ صراعهم صراع مقدّس فوق كل هذه المواثيق الدنيوية.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن