على المستوى الداخلي لم ينتظر قادة الحرب في تل أبيب، حتى تضع الحرب أوزارها، ليكشفوا عن حجم الخلافات المتصاعدة بينهم، إذا لم يعد خافيًا على أحد مساحات التباينات في المواقف بين أركان مجلس الحرب "الكابينت".
وكان وزير الحرب يوآف غالانت قد رفض الظهور مع رئيس حكومته في مؤتمر صحفي عقد مساء السبت الثاني من ديسمبر/كانون الأول الجاري، كاشفًا حجم الأزمة التي تمرّ بها الحكومة الإسرائيلية. وعندما سُئِل نتنياهو عن سبب عقده مؤتمرًا صحفيًا منفصلًا عن غالانت، أجاب: "اقترحتُ أن يعقد مؤتمرًا صحفيًا مشتركًا، لكنه قرّر ما قرّره.. واختار ما اختار".
وبحسب ما يلاحظ مراقبون إسرائيليون، فإنّ "الخلاف كبير" بين غالانت ونتنياهو، الذي يعتقد مجلس الحرب أنّه يُكمل الحرب على غزّة "لإنقاذ مستقبله السياسي"، وسط تفاقم حالة انعدام الثقة بين المجلس ونتنياهو.
وبالتوازي، هناك خلافات حادة أيضًا بين رئيس حكومة الاحتلال وعضو مجلس الحرب، بيني غانتس، الذي هدد نتنياهو بـ"إجراءات" في حال لم يتم وقف تمويل الأحزاب الدينية المتطرّفة بمليارات الدولارات في الميزانية الجديدة. وطلب في رسالة رسمية إلى نتنياهو نهاية الشهر الماضي بإلغاء جميع المخصّصات المالية السياسية (تمويل الأحزاب الدينية) من ميزانية الحرب المقترحة، الأمر الذي يُنذر بانسحاب حزب "أزرق أبيض" الذي يقوده غانتس من حكومة الحرب الحالية في إسرائيل.
في المقابل كذلك، يُطالب معسكر المعارضة نتنياهو بالاستقالة الفورية، وعدم الانتظار حتى نهاية الحرب، وهو ما عبّر عنه يائير لابيد زعيم المعارضة الذي اتهم رئيس الحكومة بأنه المتسبّب في "أعظم كارثة في تاريخ إسرائيل"، وأنّ "عليه أن يرحل فورًا"، مؤكدًا في تصريحات إعلامية أنه "فقد ثقة الشعب وجهاز الأمن"، وقال: "من يفشل بهذه الطريقة لا يمكنه الاستمرار، لقد تمّ تسجيل اسم نتنياهو على هذه الكارثة، وفقد ثقة الجهاز الأمني وثقة الناس، فليفعل الشيء الوحيد اللائق الممكن وليرحل.. حان الوقت لهذه الحكومة أن تغادرنا وتعفينا من كونها عقابًا".
في غضون ذلك، نشرت القناة 13 الإسرائيلية استطلاعًا للرأي، كشف أنّ 76% من المشاركين أكدوا أنه يجب على نتنياهو الاستقالة "فورًا" أو "في نهاية الحرب" من منصبه. كما كشف استطلاع الرأي أنّ 44% من المشاركين يعتقدون أن نتنياهو هو المسؤول عن الصراعات، و33% يعتقدون أنّ الجيش هو المسؤول، ودعا 64% من المستطلَعين إلى إجراء انتخابات بعد انتهاء الحرب.
وقبل أن تنتهي الحرب، استؤنفت محاكمة نتنياهو مطلع ديسمبر الجاري بتهم الاحتيال والرشوة وخيانة الأمانة في ثلاث قضايا، بحيث يواجه اتهامات من النيابة العامة في القضية 4000، تتضمن تسليم شركة "بيزك" العملاقة للاتصالات المملوكة لشاؤول إلوفيتش مزايا تنظيمية مقابل التدخّل التحريري في موقع "واللا" الإخباري، المملوك أيضا لإلوفيتش.
كما يواجه رئيس الحكومة الإسرائيلية، في القضية 1000، اتهامات تتعلّق بتلقيه هدايا بشكل غير لائق من رجال أعمال، وأخرى تتعلّق بالتفاوض على تغطية إعلامية إيجابية في صحيفة "يديعوت أحرنوت" مقابل فرض قيود على منافسيها، في القضية 2000.
إذا نجح نتنياهو في تنفيذ مخطط التهجير فذلك قد يكون بمثابة "قبلة حياة" له ولحكومته
في هذا الإطار يرى الباحث السياسي، هاني الأعصر، مدير المركز الوطني للدراسات في القاهرة، أنّ نتائج الحرب ستحدّد بشكل كبير ما سيحدث في إسرائيل عقب انتهائها، موضحًا لـ"عروبة 22" أنه "إذا نجح نتنياهو في تنفيذ مخطط تهجير سكان القطاع وهو مشروع تعمل عليه الحكومات الإسرائيلية منذ فترة طويلة، أو نجح في تنفيذ أي من الأهداف المعلنة أو استطاع صناعة حالة انتصار قبل نهاية الحرب، فإن ذلك قد يكون بمثابة "قبلة حياة" له ولحكومته، أما لو حدث العكس فسيكون الأمر بمثابة ضربة موجعة قد تقود لتفكّك الائتلاف الحكومي وانهياره".
ويبدي الأعصر اعتقاده بأنّ إطالة أمد الحرب، هي "معركة نتنياهو الحقيقية"، فمن جهة يسعى لتعطيل محاكمته في القضايا التي يواجهها، ومن ناحية أخرى، يأمل في تحقيق نجاحات من أجل إنقاذ مستقبله السياسي.
الاتهامات بشأن 7 أكتوبر تطال المؤسسة العسكرية وليس المستوى السياسي فقط
الأمر نفسه، يؤكده الدكتور طارق فهمي أستاذ العلوم السياسية، ورئيس وحدة الدراسات الإسرائيلية بالمركز القومي لدراسات الشرق الأوسط بالقاهرة، إذ قلّل في حديثه لـ"عروبة 22"، من أهمية الاتهامات القانونية التي يواجهها نتنياهو، فهو "بارع في التحايل على تلك المحاكمات والإفلات منها" يقول فهمي، معتقدًا بأنّ هناك صعوبة في محاكمته على الفشل الأمني الذي واجهته إسرائيل في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، باعتبار أنّ "الاتهامات بشأن ذلك اليوم تطال المؤسسة العسكرية وليس المستوى السياسي فقط".
وفي المقابل يجزم مئير مصري، الأستاذ بالجامعة العبرية في القدس، بأن هناك تغيّرات واسعة ستشهدها إسرائيل عقب انتهاء الحرب، لافتا إلى أن مسألة التغييرات تلك لن تكون قاصرة فقط على غزّة أو السلطة الفلسطينية.
ويوضح المصري في تصريحات إعلامية أنّ ما حدث في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، قضى على آخر ما تبقى من شعبية حزب الليكود اليميني، وبنيامين نتنياهو، الذي وبالإضافة إلى مشكلاته الشخصية السابقة والمتعلقة بمواجهته اتهامات بالفساد، فإنه يتحمّل مسؤولية الفشل الأمني والاستخباري بحكم موقعه كرئيس للحكومة، فضلًا عن أنّ لديه مشكلة سياسية أخرى تتعلق بفشل الرؤية، كونه على مدار سنوات حكمه الطويلة لم يعمل على إضعاف حكم "حماس" في غزّة، لافتًا إلى أنّ "كافة الاستطلاعات تشير إلى أن الليكود واليمين بشكل عام في تراجع مستمر، لصالح الوسط وبالتحديد حزب أزرق أبيض الذي يتزعمه بيني غانتس"، ومعربًا عن قناعته بأنّ "رؤية إدارة إسرائيل" ستشهد تغييرًا بمجرد تغيّر الأغلبية الحاكمة، وهذا التغيّر "لن يتأخّر كثيرًا عقب انتهاء الحرب".
غليان في المؤسسة العسكرية
وبموازاة الصراع السياسي المحتدم، فإن ثمة بركانًا على شفير الانفجار، تغلي حممه داخل الجيش، جراء "صفعة 7 أكتوبر" على المستويين العسكري والاستخباري، فبمجرد أن تضع الحرب أوزارها ستأخذ التحقيقات مسارها، وقد تقود إلى الإطاحة برؤوس كبيرة في المؤسّستين العسكرية والأمنية.
التسجيلات المُهمّة لهجوم السابع من أكتوبر حُذِفَت من قاعدة البيانات المركزية
ففي الثاني من ديسمبر/كانون الأول الجاري كشفت صحيفة "جيروزاليم بوست"، عن "اختفاء غامض" للقطات كاميرات المراقبة على طول الحدود مع قطاع غزّة، والتي يعود تاريخها إلى 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وتبيّن أنّ التسجيلات المُهمّة لهجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول، حُذِفَت من قاعدة البيانات المركزية، ما أثار شكوكًا تؤكد أنّ الجميع يبحثون في المقام الأول عن مصالحهم الخاصة وأعينهم على ما سيأتي بعد ذلك.
ووفقا للصحيفة العبرية فإنّ ضباط احتياط أعربوا عن مخاوفهم خلال زيارة ضابط كبير من هيئة الأركان العامة للجيش الإسرائيلي، بشأن اختفاء مقاطع فيديو مُهمّة التُقِطَت من كاميرات مراقبة مختلفة تابعة للجيش الإسرائيلي على طول حدود غزّة، وهي جزء من الشبكة العسكرية المعروفة باسم "ZiTube"، مرجحين أنها حُذِفَت عمدًا لعرقلة أي تحقيقات معمّقة في الأحداث التي وقعت في غلاف غزّة، وخروقات الحدود، والوضع الحدودي والعسكري العام.
وقائع أخرى كثيرة مرتبطة بعملية "طوفان الأقصى" قد تقود التحقيقات بشأنها إلى نار تلتهم الجميع، وفي مقدّمتها الحديث عن تفعيل "بروتوكول هانيبال"، خلال المواجهات بين جيش الاحتلال ومقاتلي المقاومة في المستوطنات، وسط اتهامات للجيش بالمسؤولية عن ارتفاع أعداد القتلى الإسرائيليين في ذلك اليوم، خاصة بعدما كشفته صحيفة "هآرتس" عن قيام مروحية عسكرية بقصف عدد من الشباب الإسرائيلي في موقع حفل بمستوطنة رعيم بعدما هاجمهم مقاتلي المقاومة.
وفي هذا السياق يرى الدكتور طارق فهمي، أنه فور انتهاء الحرب على قطاع غزّة، فإن تغييرات كبيرة ستطال منظومة الأمن الإسرائيلية، إضافةً إلى إعادة النظر في عملية تطوير الجيش.
ملاحقة على مستوى العالم
وفي اللحظة التي ستتوقف فيها الحرب، سيجد حملة الجنيسة الإسرائيلية أنفسهم ملاحقين وفي مرمى التهديد أينما حلّوا، وهو ما كشفت عنه تحذيرات هيئة الأمن القومي الإسرائيلي، التي رفعت مستوى تحذير سفر مواطنيها لـ80 دولة حول العالم، وأشارت في بيان إلى "رفع تحذير السفر إلى المستوى 2 إلى دول عديدة غربي أوروبا، بما في ذلك بريطانيا وفرنسا وألمانيا؛ وفي أمريكا اللاتينية، شملت البرازيل والأرجنتين؛ وكذلك أستراليا وروسيا". ويعني المستوى الثاني "التوصية باتخاذ تدابير احترازية زائدة"، وفق المصدر ذاته.
وقالت الهيئة إنه "تم رفع تحذير السفر إلى عدة دول أفريقية إلى المستوى 3، بما في ذلك جنوب أفريقيا وإريتريا؛ ودول في آسيا الوسطى، شملت أوزبكستان وكازاخستان وقرغيزيا وتركمانستان". ويعني المستوى الثالث "التوصية بالتفكير في الرحلات غير الضرورية". كما دعت إلى "الامتناع عن إبراز الرموز الإسرائيلية واليهودية، وعن التجمّعات الكبيرة للجهات الإسرائيلية واليهودية".
الخسارة الأكبر التي سيواجهها المواطن الإسرائيلي، أنه أصبح مهددًا في كل انحاء العالم
في هذا الإطار يرى هاني الأعصر، أنّ الخسارة الأكبر التي سيواجهها المواطن الإسرائيلي، أنه أصبح مهددًا في كل انحاء العالم، بخاصة بعدما تصاعد الغضب في صدور أجيال جديدة جراء مشاهدة ما يرتكبه الجيش الإسرائيلي بحق سكان غزّة.
في المحصّلة، لعلّ سيناريوهات "اليوم التالي" في إسرائيل هي أحد أسباب إطالة أمد العدوان على غزّة، سيّما وأنّ قادة الاحتلال يتحسبون لهذا اليوم... الذي سيُفتح فيه "كشف حساب" لا يستثني أحدًا في الداخل الإسرائيلي.
(خاص "عروبة 22")