وجهات نظر

العائدون من الموت وأوهام "اليوم التالي"

نفض الطفل الغزّي الخارج لتوه من تحت أنقاض منزله المدمّر، الغبار الذي غطى وجهه، وسأل عن أفراد أسرته، الواحد تلو الآخر، فأخبروه أنّ شقيقه وشقيقته ارتقيا شهيدين، فيما نقلت سيارة الإسعاف والديه المصابين إلى المستشفى، بكى الفتى وتحسبن ثم التفت إلى كاميرا هاتف كانت تتبعه وصرخ متوعّدًا: "والله لآخدلهم بتارهم.. والله لآخدلهم بتارهم، من بكرة أتجنّد في السرايا.. والواحد منا بألف.. إن شاء الله".

العائدون من الموت وأوهام

الطفل الذي يبدو من هيئته أنه لم يتجاوز الثالثة عشرة من عمره بعد، وقضى ليلة وضحاها تحت ركام منزله المقصوف حتى تم إخراجه بطريقة بدائية، كما غيره من أبناء جيله العائدين من الموت والشاهدين على الموت، هم من سيراكمون مشاهد الموت في صدورهم حتى تواتيهم اللحظة التي يواجهون فيها عدوّهم ليوفوا بوعدهم ويثأروا لأحب الناس إليهم، فإما شهداء أو منتصرين.

من تحت أنقاض غزّة، ومن قلب بيوت جنين والخليل وطولكرم وغيرها من مدن الضفة الغربية المحاصرة، حتمًا سيخرج جيل جديد ينسف كل السيناريوهات التي يطرحها قادة دولة الاحتلال الإسرائيلي، أو تلك التي تسعى الولايات المتحدة إلى إقناع بعض القادة العرب بها كحل تتخلّص به من المقاومة الفلسطينية وسلاحها، بل ومن القضية كلّها.

رغم أنّ حكومة الاحتلال لم تقترب حتى هذه اللحظة من تحقيق أي من أهدافها المعلنة من العدوان على قطاع غزّة والتي حصرها قادتها منذ بداية الحرب في "الإفراج عن المحتجزين، والقضاء على حماس حتى لا تشكّل غزّة أي تهديد مستقبلي لإسرائيل"، ورغم فداحة خسائر "الجيش الذي لا يُقهر" - الموثّقة بالصوت والصورة - في المعارك البرية بمدن وأحياء شمال ووسط القطاع، إلا أنّ الحديث لا يتوقف عن سيناريوهات إدارة القطاع بعد هزيمة المقاومة واستسلامها وفق أوهام عصابة الحرب الصهيونية وشركائها الأمريكيين والأوروبيين.

كلّما ضاعف الإسرائيلي من جثامين الشهداء وأمعن في إذلاله للمدنيين، تصاعدت الرغبة في الثأر ومواصلة معركة التحرير

باستثناء أيام الهدنة السبعة، لم تتوقف الطائرات والمدافع الإسرائيلية عن قصف منازل الغزّيين، ما أسفر عن سقوط عشرات الآلاف من الضحايا بين شهيد وجريح ومفقود، وتدمير نحو 70% من مباني غزّة، وهو ما بدا أنه محاولة إسرائيلية لتحويل القطاع إلى منطقة غير صالحة للحياة بعد الحرب، ووضع سكانه في ظروف معيشية قاسية تدفعهم إلى إعادة النظر في خيارات المقاومة وعملياتها العسكرية ضد المحتل، ما يساعد على أن تخسر "حماس" وباقي الفصائل حاضنتها الشعبية إلى أن ينتهي الأمر برفع الشعب الفلسطيني الراية البيضاء والاستسلام للواقع الذي ستفرضه إسرائيل.

لا يعدو هذا السيناريو حتى الآن سوى محاولة فاشلة لتركيع الفلسطينيين، فلا إسرائيل أنجزت شيئًا، ولا المقاومة استسلمت ولا الشعب الغزّي قنط ورفع الراية البيضاء. وما يحدث هو أنه كلّما ضاعف القصف الإسرائيلي من جثامين الشهداء وأمعن في إذلاله للمدنيين العزّل وارتفع منسوب التدمير، تصاعدت الرغبة في الثأر ومواصلة معركة التحرير خاصة عند هؤلاء الفتية الذين خبروا الموت على مدى أكثر من شهرين فصاروا لا يهابونه بل ينتظرون اليوم الذي يلتحقون فيه بركب المقاومة، فإما يستشهدون ويلحقون بأحبائهم وإما ينتصرون ويحرّرون أرضهم.

تدرك إسرائيل تمامًا أنّ الوقت والدعم لهجومها على قطاع غزّة ينفدان، وأنّ أهدافها من الحرب يستحيل تحقيقها قبل أن يحدث ذلك، لذا يحاول جيشها الوصول إلى أي إنجاز يمكن أن يتاجر به "قبل أن تُغلق نافذة الشرعية والدعم الغربي"، وفق ما أشارت إليه مجلة "إيكونوميست" في تقرير لها نُشر بعد ساعات من استئناف العملية البرية.

وفيما تذهب معظم آراء المراقبين والمحللين، إلى استحالة تحقيق إسرائيل هدفها بإخضاع القطاع أو تهجير شعبه، يصر رئيس حكومة الاحتلال على أنّ قواته ستسيطر على غزّة خلال أسابيع وأنّ "الجيش الإسرائيلي يجب أن يكون المسؤول عن نزع السلاح في القطاع بعد الحرب"، رافضًا ما يطرحه شركاؤه الأمريكيون من سيناريوهات عن مستقبل غزّة بعد المعارك.

سرعان ما ستكتشف إسرائيل وشركاؤها أنّ كل ما يخططون له هو محض أوهام غير قابلة للتحقّق

تبحث واشنطن مع بعض حلفائها، ومنهم عدد من قادة المنطقة، وضع قطاع غزّة تحت سيطرة سلطة فلسطينية "متجدّدة"، ولحين تشكيل تلك السلطة، يمكن نقل الأمن من الجيش الإسرائيلي إلى قوة دولية ربما تُشكّلها دول عربية، إلا أنّ ذلك الطرح لا يلقى قبولًا من رئيس الوزراء الإسرائيلي الذي يسعى إلى إطالة أمد الحرب حتى لا يتفكّك ائتلافه الحاكم ومن ثم يجد نفسه في دوامة من المساءلة القضائية والبرلمانية قد تنتهي بسجنه.

لا تتوقف الإدارة الأمريكية عن طرح سيناريوهات عن اليوم التالي للحرب، تناقش مع كل الأطراف الفاعلة مقترحات تصب كلّها في ألا يعود قطاع غزّة مصدر تهديد لحليفتها ومصالحها في المنطقة، لكنها لم تضع في حسبانها ماذا ستفعل في فتيان غزّة الذين ينتظر كل منهم بفارغ الصبر أن يقوى جسده على القتال حتى يفجّر كلّ ما راكمه من غضب وغل إثر ما شاهده من قتل ودمار وتواطؤ وخذلان.

ترهن إسرائيل وشركائها تحويل سيناريوهات "اليوم التالي" إلى أمر واقع باستسلام الشعب الغزّي وتخليه عن مقاومته واعتياده الحياة تحت نير الاحتلال، وسرعان ما سيكتشف هؤلاء أنّ كل ما يخططون له هو محض أوهام غير قابلة للتحقّق، في ظل تحوّل غزّة إلى مفرخة للمقاومين الذين يفضلون الشهادة على الاستسلام، والموت على الضيم والخضوع، ويسعون بكل عزم وراء ثأرهم لدى الكيان الصهيوني.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن