فقد شكّل صمود سكان غزّة، المدنيين والمقاتلين، رغم كل المجازر والخسائر البشرية والمادية، طيلة شهرين ونيّف، أمام الوحشيّة الإسرائيلية رغم الدعم الأميركي غير المحدود لإسرائيل و"العجز" الدولي أمام الإجرام الإسرائيلي اللامتناهي في القطاع، وتجاهله لكل الدعوات إلى "تقليل أعداد الضحايا المدنيين من الفلسطينيين"، حيث كان ذاك الصمود قيمة مضافة لـ"الرأسمال الرمزيّ" لنضال الشعب الفلسطيني الذي أصبح مثار إعجاب وافتخار من قبل الشعوب العربية وحتى من قبل حكامها ناهيك عن المجموعات غير العربية في أرجاء العالم.
ولكن، هل يَكف هذا التعاطف الإنساني والإسلامي والقومي مع شعب غزّة؟ وهل كان ذلك هو المطلوب أصلًا من قبل الفلسطينيين؟ ألم يكن من الأفضل لهؤلاء جميعًا دعم بدائل تحفظ كرامة الشعب الفلسطيني وكرامته في دولة مستقلة ذات سيادة حسب المقررات الدولية؟ أم أنّ ذلك إدراك من هؤلاء بعدم إمكانية تحقيق ذلك؟
لقد كان من الأهداف الثابتة للحركة الصهيونية، والدولة تاليًا، إعاقة أي محاولة من شأنها أن تساعد الفلسطينيين على بناء أسُس دولتهم المستقبلية والتخطيط للقضاء عليها إن بانت ملامحها. فإسرائيل بطبيعتها وبخوفها "الفطري" الأبدي لن تسمح بقيام الكيان الفلسطيني المفترض، كما يؤكّد الكثير من منظّري الصهيونية وزعمائها، لأنّ الدولة الصهيونية لا تتصوّر أن تستمر في أمن وطمأنينة ما دام هناك من يطالب وإن بالجزء اليسير مما أقرّته الأمم المتحدة منذ قرار التقسيم، وصولًا إلى قرار 242، فخوفها الأبديّ نابع من استمرار المطالبة بالحقّ الفلسطيني ومن الديمغرافيا الفلسطينية أيضًا التي تلاحقها كل يوم وتقضّ مضاجعها.
تغتبط إسرائيل وهي ترى التبرعات العربية والدولية تتدفّق على الفلسطينيين بعد كل مجزرة تنفّذها
لذلك لن تتوقّف إسرائيل، على خلفية ذلك، في ارتكاب مثل هذه الجرائم البشعة ولن ترتدع في القيام بأشنع منها، ما دامت تمتلك أشكالًا مختلفة من الوسائل العسكرية الضاربة والرادعة وقوى دولية مساندة، كما لن يمنعها ذلك من معاودة العدوان لأنّها على يقين بعمق علاقتها بالغرب.
لقد اعتمدت الحركة الصهيونية، وتاليًا الدولة، العنف بمختلف أشكاله كأفضل الأساليب لتحقيق أهدافها ولفضّ نزاعاتها مع العرب عامة والفلسطينيين خاصة، ووظّفت كل إمكانياتها المادية والسياسية حتى تتحوّل إلى أكبر دولة في المنطقة تمتلك أكثر أنواع الأسلحة تطورًا وفتكًا.
وقد بيّنت التجربة القصيرة لهذه الدولة، أنّها لن تتوانى في استخدام كل وسائل الفتك والدمار ضدّ كل من تسوّل له نفسه تحديها أو تجاوز إرادتها، لأنّها تعتبر نفسها الضحية على الدوام، أما الآخرون الذين قد يحترزون أو ينتقدون أو يحتجون أو يقاومون فهم "مجرمون - "إرهابيون" ضدّ الدولة وضدّ اليهودي الملاحق دائمًا من قبل "قوى الشرّ".
تغتبط إسرائيل كثيرًا وتُسعد جدًّا وهي ترى التبرعات المالية والمادية والعينية العربية والدولية تتدفّق على السكان الفلسطينيين بعد كل مجزرة تنفّذها، ولا تعترض على ذلك بل قد تشجّع تلك العمليات ولا تعرقلها لأنّ ما تقوم به الدول العربية، بعد خراب غزّة، يحقّق لإسرائيل وبعض الأنظمة العربية هدفين قد يكونا متباينين بالنسبة لكل طرف: يتمثّل الهدف الأول في إعفاء إسرائيل من عبء تحمّل أي نوع من المسؤولية، سواء كانت مالية أو قانونية، الناتجة عن الدمار والتخريب والمآسي التي لحقت بالآلاف من السكان الأبرياء، ناهيك عن العدد الكبير جدًا من القتلى الشهداء والجرحى.
أما الثاني فيتمثّل في أنّ العملية "الإنسانية" العربية الرسمية تلك تريح ضمائر كل الأنظمة العربية من مسؤولية ما حدث ومن تداعياته السياسية والمادية مما قد يدفعها إلى اللامبالاة.
إسرائيل على وعي وإدراك مسبّق بأن معالجة الأنظمة العربية لمأساة غزّة بتلك الطريقة الإنسانية سيريحها ماديًا وقانونيًا، وسيشجّعها أيضًا على تكرار عدوانها بالطريقة نفسها أو بطريقة أشنع، ما دام هناك من هو على استعداد للدفع. ولا شكّ أنّ "الكرم أو الواجب" العربي هذا سيُديم انتصار إسرائيل وتفوّقها على العرب والفلسطينيين وتُسند دوام قدراتها على البقاء بالشكل الذي ترغب.
أفضل مساندة للقضية من قبل الدول العربية أن تستثمر ما أكّد عليه الرئيس الأمريكي حول "حلّ الدولتين"
على أنّ ما يُزعج إسرائيل ويقضّ مضاجعها، هو ثبات الفلسطينيين على خيار المقاومة، بغضّ النظر عن أشكال المقاومة وأدواتها سواء كانت سلمية أو عنيفة حتى في حدّها الأدنى، وفي الوقت الذي تدرك فيه أنّ الشعب الفلسطيني لن يستسلم ولن يفرّط في حقوقه المشروعة، فإنها تدرك عدم استعداد الدول العربية لتبنّي خيار المقاومة في تحرير الأرض أو على الأقل تقديم المساعدة للفلسطينيين ليختاروا الوسائل الكفيلة بتحقيق آمالهم.
وعلى خلفية هذا الواقع، يبدو أنّ أفضل مساندة للقضية من قبل الدول العربية الوازنة والمؤثّرة سياسيًا واقتصاديًا أن تستثمر ما أكّد عليه الرئيس الأمريكي جو بايدن حول "حلّ الدولتين"، والتشبّث بالمبادرة العربية لسنة 2002 التي رفضتها الدولة الإسرائيلية واستخفّت بها، وغير ذلك سيتواصل النضال الفلسطيني بالحدّ الأدنى من الوسائل الكفاحية الضرورية الكفيلة بإيقاع الألم بسكان إسرائيل بدعم متنوّع من دول الجوار العربي، سواء عن قناعة أو لتحقيق مصالحها القومية بمضامينها المختلفة، ما سيتولّد عنه تداعيات مختلفة.
(خاص "عروبة 22")