نماذج هذه التصريحات عديدة، ولعل تصريح وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن كان أهمها في الآونة الأخيرة، فقد صرّح بأنّ إسرائيل تخاطر بتحويل نصرها التكتيكي إلى خسارة استراتيجية، وأرجع هذا الخطر إلى فقدان إسرائيل لتأييد السكان المحليين، واستشهد بخبرة مواجهة "داعش" في العراق في العقد السابق.
غير أنّ الأمر تعدى المستوى الوزاري إلى الرئاسي بمشاركة الرئيس جو بايدن في إطلاق هذه التصريحات، فتارة يصف حكومة إسرائيل الحالية بأنها أكثر الحكومات تطرّفًا في تاريخ إسرائيل، ويقول إنّ نتنياهو يتعيّن عليه تقوية وتغيير هذه الحكومة لإيجاد حل طويل الأمد للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، وتارة أخرى يضيف أنّ إسرائيل بدأت تفقد الدعم في جميع أنحاء العالم، وأنّ هناك مخاوف حقيقية في مختلف أنحاء العالم من أن تفقد أمريكا مركزها الأخلاقي بسبب دعم إسرائيل.
ويُضاف لذلك كلّه كثافة الزيارات التي يقوم بها مسؤولون أمريكيون إلى تل أبيب، بدءًا بوزير الخارجية وانتهاءً بمستشار الأمن القومي، من أجل ترشيد الهجمات الجوية الإسرائيلية، والإسراع بإنهاء الحرب، فضلًا عن تصريحات بايدن، المعترضة على تهجير الفلسطينيين خارج غزّة وكذلك على إقامة منطقة عازلة فيها، والمؤيّدة لـ"حل الدولتين".
ضغوط حقيقية على الإدارة الأمريكية بسبب الدعم المطلق لإسرائيل في واحد من أكثر أعمالها العدوانية همجيةً وإجرامًا
وقد دفعت هذه المؤشرات وغيرها البعض للحديث عن إرهاصات تغيير في السياسة الأمريكية تجاه إسرائيل، ولو حدث هذا بالفعل لمثّل تطورًا نوعيًا في مسار الصراع لأنّ الولايات المتحدة هي العامل الأهم في بقاء إسرائيل، وليس علينا سوى أن نتذكّر دورها في دعم الكيان الصهيوني منذ نشأته عسكريًا واقتصاديًا ودبلوماسيًا، وفي التخطيط والدعم والتنفيذ لعدوان ١٩٦٧ الذي كان الهدف منه أصلًا هو إجهاض الانتصار الشامل لحركات التحرّر الوطني بعد أن أصبح انسحاب بريطانيا من الخليج مع حلول ١٩٦٨ مؤكدًا في ظل تثبيت ثورة اليمن ووجود القوات المصرية على أرضه، وكذلك دورها في إنقاذ إسرائيل من هزيمة كاملة في حرب ١٩٧٣، ودورها في دعم الغزو الإسرائيلي للبنان ١٩٨٢ والعدوان عليه في ٢٠٠٦، وأخيرًا وليس آخرًا دورها عسكريًا واقتصاديًا ودبلوماسيًا في العدوان الإجرامي الحالي على غزّة، فما هي احتمالات حدوث تغيير في السياسة الأمريكية تجاه إسرائيل؟ وما درجة هذا التغيّر إن وقع؟
لا تخرج المسألة في تقديري حتى الآن عن أنّ ثمّة ضغوطًا حقيقية على الإدارة الأمريكية بسبب سياستها المتمثّلة في الدعم المطلق لإسرائيل في واحد من أكثر أعمالها العدوانية همجيةً وإجرامًا، إن لم يكن أكثرها، وقد ترتّب على الجرائم التي انطوى عليها هذا العمل تحوّل قطاعات من الرأي العام داخل الولايات المتحدة وخارجها ضد إسرائيل.
وشمل هذا التحوّل قطاعات من اليهود الأمريكيين المعادين للصهيونية والأمريكيين الأفارقة والاتجاهات اليسارية داخل الحزب الديموقراطي والنخب الأكاديمية بما فيها طلاب الجامعات والنقابات العمالية وهكذا، بل لقد ظهرت اعتراضات داخل الخارجية الأمريكية ذاتها.
وفي مواجهة كل هذه الضغوط، كان لا بد من استجابة ما تأخذها الإدارة الأميركية في الاعتبار، لكنها تتحسّب في الوقت نفسه لثبات قطاعات بالغة الأهمية من النخبة والرأي العام الأمريكي على موقف التأييد الذي لا يقبل المراجعة لإسرائيل، خاصة وأنّ سنة الانتخابات الرئاسية قد اقتربت، ولذلك كان من الواضح أنّ استجابة إدارة بايدن ووزرائه ومعاونيه ذوي الصلة لهذه الضغوط قد تمثّلت في عملية "تجميل" وليس "تغيير" يتم فيها أولًا تبني مواقف لا تنطوي على أي تهديد لأمن إسرائيل مثل رفض التهجير وأفكار إسرائيل بشأن مستقبل الترتيبات الأمنية في غزّة، وتأييد "حل الدولتين" وتولي السلطة الفلسطينية مقاليد الأمور في غزّة بعد "إعادة إحيائها"، كما يتم فيها ثانيًا تبني بعض المواقف التي تحاول بها إضفاء طابع أقل وحشية على السياسة الأمريكية كنصائح ترشيد -وليس إنهاء- الهجمات على المدنيين، والتركيز على قادة "حماس" في عمليات القتل، ومحاولة إنهاء العملية العسكرية بسرعة حتى لا يتعكّر المزاج الأمريكي في أعياد الميلاد وهكذا.
التغيير الحقيقي يمكن أن يحدث فقط مع استمرار صمود المقاومة وتكبيدها القوات الإسرائيلية خسائر موجعة
ويُلاحظ أولًا؛ أنّ هذه المواقف كلّها لا تنطوي على أي اعتراض على أهداف العملية الإسرائيلية، وأنها ثانيًا؛ تأخذ صيغة النصيحة وليس الإلزام، وأنها ثالثًا تتبنّى الروايات الإسرائيلية على نحو مهين، كما في رد أحد المتحدثين الرسميين الأمريكيين على سؤال لأحد الصحفيين بشأن تعرية الأسرى المدنيين الفلسطينيين بأنّ السلطات الإسرائيلية أكدت أنها أعادت لهم ملابسهم!.
وقبل هذا كلّه وبعده، عن أي تغيير يتحدثون والولايات المتحدة تنفرد في مجلس الأمن بإجهاض قرار وقف إطلاق النار؟، وعن أي ترفق بالمدنيين يدعون والإدارة الأمريكية تتجاوز الكونجرس لإنجاز جزء من صفقة قذائف الدبابات لإسرائيل، ومع ذلك فإن تغييرًا حقيقيًا ما يمكن أن يحدث فقط مع استمرار صمود المقاومة وتكبيدها القوات الإسرائيلية خسائر موجعة على نحو يذكّرنا بسيناريو صمود المقاومة أمام العدوان الإسرائيلي على لبنان في ٢٠٠٦.
(خاص "عروبة 22")