هذه الأكاذيب والجهالات تصب في مجرى واحد هو ازدراء المقاومة والتشهير بها والحط من قدر رجالها البواسل، وكأنّ المطلوب أن يموت أصحاب أرض الوطن المسروق بصمت ومن دون أي إزعاج للمجرمين العنصريين لصوص الأوطان.
شهران ونصف الشهر مرّت حتى الآن على المحرقة التي تنهش بلا رحمة أجساد وأرواح عشرات آلاف العزّل من الشعب الفلسطيني وتدمّر كلّ أسباب الحياة في القطاع، لكن تجلت حقيقة خيبة العدو الثقيلة، إذ لم يتمكن برغم آلاف الأطنان من القنابل والمتفجّرات التي ألقاها فوق رؤوس العزّل، من كسر المقاومة البطلة، ولم يفز بشيء يُذكر سوى الخراب الشامل ومراكمة جثامين الشهداء من الأطفال والنساء على نحو غير مسبوق في كل التاريخ الإنساني الحديث.
لكن هذه الصورة المروعة التي صنعتها محرقة غزّة حتى الآن، اغتنمها بعض من يعانون موت الضمير كي يدعموا سرديتهم المشينة، إذ تعمدوا تجاهل حقيقة أنّ جيش العدو يستقوي على أطفال صغار ونساء وكهول عزّل فيصب عليهم، بجبن وجنون يستعصيان على الوصف، حمم أحدث أسلحة القتل الأمريكية، بينما في ميدان القتال تغوص قواته يومًا بعد يوم في وحل الفشل وتتلقى ضربات موجعة ومستمرّة من المقاومة التي لا يفوق بسالة رجالها سوى كفاءتهم ومهارتهم التي تثير أعجاب الدنيا وذهول خبراء الحرب في العالم شرقًا وغربًا.
كل الشعوب التي عانت من الظلم والاحتلال لم تحصل على حقها في الحرية والانعتاق إلا بالمقاومة
إنّ قطيع الملتاثين هؤلاء يتعامون عن حقيقة الجانب الأهم من الصورة بهدف إشاعة الإحباط والقعود عن أية مقاومة والامتناع عن إلحاق أي نوع من الأذى بعدو عنصري متوحش، بل واستخدام هذه الوحشية نفسها كمبرر لاستسلام شعب كامل والرضا بحاله هكذا، يكابد أفدح آيات الظلم والقهر!!
إنّ هذا الجانب الذي يتجاهله ذاك القطيع، يشي برغبة مريضة في التذرّع بأي كلام فارغ بما فيه الجهالات الفاحشة لكي يسوغون خيانتهم وبؤسهم وفقرهم للإنسانية والضمير، فالحقيقة الناصعة التي استقرّت نهائيًا في وعي البشر وضمائرهم أنّ كل الشعوب التي عانت من الظلم والاحتلال لم تحصل على حقها في الحرية والانعتاق إلا بالمقاومة التي لا تلين، تجاوزًا عن فارق القوة الفادح دائمًا، بين ما هو متاح للمقاومة من وسائل قوة مسلحة متواضعة جدًا مقارنةً بما يملكه عدوّهم من تلك القوة.
ففي النهاية، الانتصار هو قدر حتمي للشعوب التي تقاوم غاصبيها، إذ تعوّض فارق القوة المادي بينها وبين غاصبيها، بعدالة قضية مقاوميها وتمسّك هؤلاء بحقوق شعبهم، فضلًا عن تفوّقهم الأخلاقي على العدو.
ورغم أنّ تذكير القطيع آنف الذكر بأمثلة من تاريخ الشعوب يبدو غير مجدٍ، لكن لا بأس من عرض مثالين اثنين فقط، أولهما أنه في الحرب العالمية الثانية تمكنت القوات النازية الألمانية التي غزت أراضي روسيا السوفيتية من قتل ما بين 25 إلى 30 مليون مواطن سوفيتي، ومع ذلك فإنّ القوات الروسية هي التي رسمت أهم ملامح صورة نهاية الحرب وانتصرت انتصارًا مدويًا على الغزاة، بل كانت قواتها أول قوات الحلفاء التي دخلت برلين عاصمة النازي وقتها.
المقاومة الفلسطينية حققت تفوّقًا أخلاقيًا رائعًا على العدو
أما المثال الثاني فهو ما حدث في فيتنام البلد الصغير الفقير مقارنةً بحال قوة عدوانية رهيبة، الولايات المتحدة الأمريكية التي هي الامبراطورية الأكبر والأغنى في التاريخ، لقد فقدت فيتنام وهي تقاوم هذه القوة العدوانية الهائلة، أكثر من 2 مليون إنسان إضافة إلى خراب ودمار شاملين، لكنها في الختام ألحقت بأمريكا هزيمة مذلّة، واجتاحت قواتها مدينة هانوي عاصمة البلاد التي كانت في قبضة الأمريكيين وحكومتهم العميلة، وبلغ الإذلال حد أنّ السفير الأمريكي فرَّ من فوق سطح السفارة ولحق بالكاد طائرة الهليكوبتر التي انتشلته من دون أن يتمكن من ارتداء سوى فردة حذاء واحدة.
وأخيرًا فقد حققت المقاومة الفلسطينية تفوّقًا أخلاقيًا رائعًا على العدو، ويكفي هنا أن نشير إلى الأفعال الإجرامية المشينة التي يقوم بها العدو بحق أسرانا من إهانات وتعذيب حتى الموت، وبالمقابل شهد أسراه عند المقاومة بالمعاملة الإنسانية الراقية التي عوملوا بها، وجعلت الذين أتيح لهم الكلام منهم أن يشيدوا علنًا بأخلاق آسريهم، الأمر الذي دفع سلطات العدو لمنعهم من الحديث أصلًا أمام وسائل الإعلام.
(خاص "عروبة 22")