تبدو الضربات اليمنية للسفن الصهيونية والمتوجّهة للكيان الصهيوني ذات طابع رمزي استنادًا إلى الصورة الانطباعية التاريخية بأنّ التجارة الخارجية لذلك الكيان تتم مع أوروبا والولايات المتحدة بالأساس، لكن الأمر ليس كذلك فهي ضربات موجعة فعليًا وليس رمزيًا، حيث تغيّر التوزيع الجغرافي للتجارة الخارجية للكيان الصهيوني بشكل جوهري في العقود الثلاثة الأخيرة، حيث يتوجه ربع الصادرات الصهيونية إلى الدول الآسيوية.
ووفقًا لتقرير إحصاءات التجارة العالمية الصادر عن منظمة التجارة العالمية، بلغت القيمة الإجمالية للصادرات السلعية الصهيونية لكل دول العالم نحو 74 مليار دولار عام 2022.
ويحصل الكيان الصهيوني على ثلث وارداته السلعية من الدول الآسيوية. وتبلغ القيمة الإجمالية للواردات السلعية الصهيونية من كل دول العالم نحو 107 مليار دولار في العام المذكور. ويجري الجانب الأكبر من تلك التجارة مع الصين الأم والأقاليم الصينية وتحديدًا هونج كونج وتايوان.
تكلفة نقل التجارة الصهيونية مع آسيا عبر رأس الرجاء الصالح ستصبح ثلاثة أمثال تكلفة نقلها عبر البحر الأحمر
وتمر تلك التجارة كلّها عبر البحر العربي وباب المندب والبحر الأحمر لتتوجه إلى ميناء أم الرشراش "إيلات" على رأس خليج العقبة بدون تحمّل أي رسوم لأنّ مضيق تيران صار دوليًا بعد تنازل السلطة المصرية عن جزيرة تيران للسعودية، وحتى قبل ذلك التنازل كان المرور التجاري عبر المضيق يتم بلا رسوم وهي خيبة حكومية ممتدة من العهد الملكي وحتى التنازل عن الجزيرة وعن مصرية المضيق.
ولو اضطر الكيان الصهيوني لنقل تجارته عبر طريق رأس الرجاء الصالح بدلًا من البحر الأحمر، فإنّ تكلفة نقل التجارة الصهيونية مع آسيا ستصبح ثلاثة أمثال تكلفة نقلها عبر البحر الأحمر، فضلًا عن تضاعف زمن نقل تلك التجارة، وكلّها تشكّل خسائر جسيمة للكيان الصهيوني وتجارته الخارجية، وبخاصة صادراته التي ستصبح تكلفتها أعلى كثيرًا بعد تحميلها بتكلفة النقل المضاعفة عبر رأس الرجاء الصالح مما سيؤثر سلبيًا على قدرتها التنافسية ويشجع بعض الدول الآسيوية على التحوّل عنها إلى مصادر بديلة للسلع المناظرة.
إضافة لذلك، فإنّ ارتفاع أسعار الواردات المحمّلة بتكلفة نقل أعلى سوف يساهم في ارتفاع معدل التضخم في الكيان الصهيوني. كما أنّ ميناء أم الرشراش "إيلات" سيظل عاطلًا عن العمل كليًا خلال فترة توقف السفن عن التوجه للكيان الصهيوني عبر البحر الأحمر، حيث ستخرج الصادرات الصهيونية لآسيا من موانئ البحر المتوسط في فلسطين المغتصبة عام 1948، وستقوم تلك الموانئ باستقبال الواردات من تلك الدول.
ذريعة تضامنية مع الكيان الصهيوني وابتزازية لمصر ودول الخليج
بناءً على حصرية الاستهداف اليمني للسفن الصهيونية والسفن المتوجهة للكيان الصهيوني أيًا كانت جنسيتها، فإنّ استخدام ذلك الاستهداف كذريعة لتعليق مرور كل سفن الحاويات وناقلات النفط التابعة للشركات التي قامت بتعليق مرورها من البحر الأحمر وقناة السويس، هو نوع من الابتزاز لأنّ كل السفن الأخرى غير الصهيونية وغير المتوجهة للكيان الصهيوني آمنة تمامًا ولا تواجه أي تهديد. وبالتالي فإنّ رسالة الشركات التي علّقت مرور سفنها من البحر الأحمر والقناة مفادها: "إما مرور الكل بما فيها السفن الصهيونية والمتوجهة للكيان الصهيوني أو احتجاب الجميع عن المرور من البحر الأحمر والقناة". أو بتعبير آخر هو ابتزاز من بعض أعمدة الشركات الرأسمالية الغربية أصدقاء الكيان الصهيوني لطلب الحماية للتجارة الخارجية لذلك الكيان.
هذا الابتزاز موجه إلى أصحاب المصلحة الكبرى في انتظام وأمان المرور البحري التجاري في البحر العربي وباب المندب والبحر الأحمر وقناة السويس، وهُم مصر ودول الخليج العربي وعلى رأسها السعودية ودول البحر المتوسط والاتحاد الأوروبي وبريطانيا والولايات المتحدة التي لديها تنسيق وثيق مع تلك الشركات على الأرجح في إصدار قراراتها بتعليق المرور في البحر الحمر وقناة السويس.
وقد سارعت الولايات المتحدة بتشكيل تحالف من بعض الدول الحليفة والتابعة لها تحت مسمى "حماية الازدهار"، وهي تسمية زائفة ومثيرة للسخرية فالأكثر دقة للتعبير عن دور هذا التحالف هو "حماية تجارة ومصالح الكيان الصهيوني".
مصر والسعودية رفضتا الانضمام للتحالف المشبوه المكرّس لحماية مصالح الكيان الصهيوني وتجارته الخارجية
ويتبدى الانحطاط السياسي والأخلاقي للسلطات الحاكمة في الولايات المتحدة وكل من شارك معها في هذا التحالف من أنهم ماتت "ضمائرهم" إذا كان لها وجود أصلًا، ولم يحرّكوا ساكنًا لحماية الشعب الفلسطيني الذي يتعرّض لحرب إبادة جماعية إجرامية من الكيان الصهيوني الذي يرتكب كل جرائم الحرب المعادية للإنسانية التي خطرت والتي لم تخطر على بال أحد، بل على العكس قدّمت الولايات المتحدة ومن ورائها ألمانيا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا كل الدعم لذلك الكيان بما في ذلك الدعم العسكري المباشر والدعم المالي الأمريكي (14,3 مليار دولار) الذي يزيد عن أي خسائر اقتصادية خسرها ذلك الكيان في الحرب.
وقد فشلت الولايات المتحدة في استقطاب أهم دولتين عربيتين مقصودتين بابتزاز شركات النقل البحري، وهما مصر والسعودية اللتان رفضتا الانضمام لذلك التحالف المشبوه المكرّس لحماية مصالح الكيان الصهيوني وتجارته الخارجية.
وسوف تتعرّض مصر لخسارة مؤقتة بسبب قرار بعض الشركات الملاحية الكبرى بتعليق مرورها من البحر الأحمر، وبالتالي من قناة السويس، بما سيفقد مصر جزءًا مهمًا من إيرادات قناة السويس التي بلغت نحو 8760 مليون دولار في العام المالي 2022/2023 وهي تعادل نحو 9% من حصيلة صادرات السلع والخدمات وتحويلات العاملين في الخارج، وهي رابع أهم مصدر للعملات الحرة في مصر بعد الصادرات السلعية، وتحويلات العاملين في الخارج، وإيرادات السياحة.
لكن فارق التكلفة والزمن بين نقل التجارة عبر قناة السويس، أو عبر طريق رأس الرجاء الصالح، سوف يعيد كل الشركات الملاحية الكبرى للبحر الأحمر ولقناة السويس بشكل سريع سواء توقف الاستهداف اليمني للسفن المتوجهة للكيان الصهيوني أو استمر.
أمريكا ستنعش فكرة الممر التطبيعي.. فهل ستقبل الرياض؟
تكمن المخاوف فقط في أنّ تشكيل الولايات المتحدة وأتباعها للتحالف البحري لمواجهة اليمن يمكن أن يؤدي إلى خروج الوضع عن السيطرة وإشعال الصراع في مضيق باب المندب بفعل أمريكي عمدي للإضرار الطويل الأجل بمصر وللضغط على السعودية وإنعاش فكرة الممر التجاري من الموانئ الإمارتية إلى الكيان الصهيوني عبر السعودية بعيدًا عن البحر الأحمر وقناة السويس، وهو ممر يتوقف كليًا على قبول السعودية الدخول في مستنقع التطبيع مع الكيان الصهيوني الغاصب والذي يشن حرب إبادة ويرتكب كل الجرائم المعادية للإنسانية وللحياة في قطاع غزّة الفلسطيني.
السعودية ودول الخليج سوف تستفيد من الارتفاع المؤقت لأسعار النفط نتيجة الاضطراب الملاحي
وكانت الإمارات قد عقدت اتفاقيات تحالف بين موانئها وموانئ الكيان الصهيوني، وهي اتفاقيات ستظل في حدود تبادل الخدمات، ويمكن أن تتحوّل إلى ممر لنقل التجارة في حالة سماح السعودية بمرورها عبر أراضيها، لكنها إن فعلت ستسدّد ضربة قوية للنضال الوطني الفلسطيني ولقناة السويس المصرية التي خسرت دفاعها الاستراتيجي منذ تنازل السلطة في مصر عن جزيرة تيران للسعودية وتحوّل مضيق تيران إلى مضيق دولي.
وعلى صعيد آخر، فإنّ السعودية ودول الخليج سوف تستفيد من الارتفاع المؤقت لأسعار النفط نتيجة الاضطراب الذي خلقه قرار الشركات الملاحية بتعليق مرورها من البحر الأحمر، لكنها ستتحمّل تكاليف إضافية للتأمين على حركة التجارة النفطية وغير النفطية عبر البحر الأحمر، حيث بادرت شركات التأمين البحري برفع رسوم التأمين على التجارة المارة في البحر الأحمر بصورة استغلالية دنيئة، لأنّ كل السفن آمنة ما عدا تلك المتوجهة للكيان الصهيوني أو المملوكة له.
الكيان الصهيوني من حارس إلى محروس
الملفت حقًا أنّ الكيان الصهيوني الذي تم تأسيسه وجلب المهاجرين له من كل حدب وصوب ودعمه وإثراؤه على أرض فلسطين بمساعدات مالية وعينية هائلة من قِبل أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية والحركة الصهيونية الغربية بهدف حل مشكلة الصراع الطائفي بين المجتمعات الأوروبية المسيحية، والأقليات اليهودية فيها بإبعاد اليهود واغتصاب وطن لهم في فلسطين وجعلهم حارسًا للمصالح الإمبريالية للرأسمالية الأوروبية والأمريكية.
هذا الكيان أصبح هو الذي يحتاج للحماية لمجرد الحفاظ عليه كحل للمشكلة اليهودية في الغرب، فبمجرد انفجار الوضع بين المقاومة الفلسطينية وذلك الكيان في 7 أكتوبر بعد تاريخ طويل من الإجرام الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني والمقدّسات الإسلامية، أعلنت الولايات المتحدة التزامها المطلق بوجود وأمان وتفوّق ذلك الكيان وأرسلت مسيراتها التجسّسية ومستشاريها وسفنها الحربية، وضمنها حاملتا طائرات، لردع دول المنطقة العربية وإيران ومنعها من التفكير في أي هجوم على الكيان الصهيوني الذي تعرّض لهزيمة مذلّة في المواجهة المباشرة القائمة على شجاعة المقاتلين في 7 أكتوبر، ولم يعد لديه سوى حيلة الجبان المدجج بالسلاح وهي الضرب عن بُعد بالقاذفات والمسيّرات والمدافع بعيدة المدى والدبابات وتدمير كل شيء حتى يتقدّم بعد ذلك في أرض مدمّرة، وحتى تلك ما زال عاجزًا عنها ومتعثرًا ويعوّض خيباته بمقتلة مروّعة للمدنيين وبخاصة للأطفال والنساء والشيوخ والمرضى، ويا له من عار عليه وعلى كل داعميه وعلى رأسهم إدارة الشرّ الأمريكية.
(خاص "عروبة 22")