تحت تأثير مزيج من غرور القوة وتضخم الذات وإنكار الواقع والشعور بالفوقية والتميز، قال مسؤولون كبار من نخبة الحكم والسياسة في إسرائيل، بأنهم سيواصلون الحرب في غزة، سواء بالدعم الدولي أو بدونه. وفي هذا الإطار، بلغت رعونة رئيس وزرائهم بنيامين نتانياهو حدها الأقصى حين تلاسن، بشكل شبه مباشر، مع الرئيس الأمريكي بايدن، وتفاخر بأنه لا ينصاع لأحد حتى للولايات المتحدة، وذلك بزعمه «على النقيض مما فعله ديفيد بن جوريون، الذي استجاب لمطلب أيزنهاور عام 1956 بالانسحاب من الأراضي المصرية المحتلة خلال ساعات».
ها قد عشنا حتى رأينا نتنياهو يحاول مقارعة زعيم البيت الأبيض في الخارج، ويزايد على صفوة أسلافه في الداخل، بمن فيهم المؤسس الفعلي لإسرائيل.
مقتضيات التأمل الموضوعي للحقائق والمعطيات، الموصولة بملف الصراع في رحاب فلسطين التاريخية، تدعونا إلى تصديق كل المتبجحين الإسرائيليين بالتحليق بعيداً عن الإجماع الدولي ومعاكسته، ليس فقط فيما يخص استمرار الحرب الدامية على غزة، وإنما أيضاً وأساساً فيما يتعلق بمسار هذا الملف ومصيره عموماً.. غير أن ما ينبغي أن يتوقف عنده هؤلاء القوم، وفي طليعتهم نتنياهو وبطانته من المتصقرين المتنمرين، هو الاستثناء الأمريكي. القول الفصل في ذلك، أن تل أبيب ما كان لها، وقد لا يكون لها حتى إشعار آخر، أن تغاضب أو تفارق كل الرموز المعبرة عن الإرادة العالمية، دولاً وتنظيمات وأعرافاً وقوانين وقرارات وتوجهات إقليمية وأممية..، بمعزل عن رعاية واشنطن ودعمها لهم بحيثيات ومدخلات وإجراءات حمائية لا ممنوعة ولا مقطوعة.
من بين ما ينبغي أن يكون معلوماً بالضرورة أن حسابات الإسرائيليين مع الولايات المتحدة، ليست كحساباتهم مع مجمل أعضاء ومكونات المنظومة الدولية،.. الأمر الذي يوجب عليهم التعامل مع واشنطن، بالقول والفعل، بمعايير شديدة الحساسية، حيث إن العلاقة بين الطرفين تسمح لإسرائيل بمقاربة السياسات الأمريكية بكثير من الدلال والعشم والمراوغة، لكن الصدام مع واشنطن وجهاً لوجه مسألة أخرى. ويقيناً يتجاوز الساسة الإسرائيليون الواقع، ويكذبون على أنفسهم ويتجملون كثيراً، حين لا يغمرون الظهير الأمريكي بالثناء، ولا يخصون احتمال الانصياع لإرادته بالذكر والاستثناء، في معرض استئسادهم بالقول إنهم ماضون في حربهم على غزة بغض النظر عن كل الضغوط الدولية. ونحسب أنه حري برئيس وزرائهم قبل الزهو بتحديه الناعم لبايدن، أن يتحسس ذاكرته القريبة جداً بدلاً من جرجرة ذاكرة جمهوره المتطرف إلى عهد بن جوريون وأيزنهاور.. وهو إن فعل ذلك، فسيجد نفسه ودولته اليوم بحاجة إلى مظلة واشنطن والتدثر بعباءتها، بأكثر مما كانت عليه حاجة بن جوريون من قبل.
لا يسمح المقام بالتطرق إلى أيادي واشنطن على إسرائيل، التي هرمنا ونحن نتابع مفاعيلها خلال الحقب المنصرمة منذ «حرب السويس».. لكن متابعة ما يدور في سياق موقعة غزة الجارية، وإحصاء الفضائل الأمريكية على إسرائيل، تكفي للاعتقاد بضرورة ابتلاع نتانياهو وبطانته لألسنتهم الملتهبة بحق واشنطن، وحذفها من زمرة القوى التي يدعون بأنه لا يمكنهم الانحناء أمامها.. كيف لا وقد تبنت الأخيرة الخطاب الإسرائيلي في هذا السياق بكامل تفاصيله إلا أقل القليل، وعجلت باتخاذ تحركات داعمة له بلا حدود، عسكرياً واستخبارياً وسياسياً وقانونياً واقتصادياً ومالياً وإعلامياً ودعائياً.. وذلك إلى الدرجة التي ربما ظن عندها البعض، ممن يجهلون التفاصيل، بأن المقصود بهذا السخاء المفرط هو إحدى الولايات الأمريكية، وليس كيان ووجود دولة أخرى على بعد آلاف الأميال.
على سبيل الاستطراد المفيد، لنا أن نلاحظ كيف كان بن جوريون أعمق رؤية وأبعد نظراً من خلفه المتغطرس نتانياهو.. فقد أذعن لواشنطن بعد أن استطلع، صعود نجمها وتربعها على قمة النظام الدولي، مقابل ذهاب نجمي بريطانيا وفرنسا، اللتين شاركهما العدوان الثلاثي، نحو الخفوت وربما الأفول. ومؤدى ذلك أنه أقدم على خطوته بناء على توقع مستقبلي ثبتت صحته، بينما يحسب خلفه راهناً أنه قادر على معاندة حليفه العالمي الأهم، إن لم يكن الأوحد، الذي يغرس خشبة وليس فقط قشة في عينه.
الشاهد بإيجاز، أن إسرائيل رغم علاقتها الموصوفة بالخاصة مع الولايات المتحدة، ما زالت بعيدة بمسافة عن الترقي إلى مرتبة أو مكانة الشريك كامل الأوصاف.. الذي بوسعه في التحليل الأخير التفاوض والأخذ والرد والقبول والرفض، من منطلق التساوي رأساً برأس.
("البيان") الإماراتية