في كتابه الشهير "كليلة ودمنة" الذي بات واحدًا من عيون الأدب العربي ولا سيما أدب الأطفال، يورد الكاتب عبد الله بن المقفع قصة ذات دلالة بعنوان "القبرة والفيل".
والقبرة هي طير صغير جميل الألوان والشكل، وملخّص القصة كما وردت في الكتاب هو أنّ فيلًا ضخمًا كان يمضي إلى موضع شربه غير عابئ بما يدهسه في طريقه وكان من بين ما دهسه وهشّمه هذا الفيل بيض القبرة الذي وضعته في حفرة صغيرة تصادف أنها كانت في طريق الفيل.
أدركت القبرة أنّ ما حمل الفيل على هذا الجرم بحقها هو استهانته بها بسبب صغر حجمها، فقررت الانتقام من الفيل، وجعلت أداة انتقامها منه كل من استصغر حجمهم واستهان بهم مثلها تمامًا، فاستعانت بأمثالها من الطيور الصغيرة الحجم، وجعلوا ينقرون عيني الفيل حتى ذهبوا بهما، ثم استعانت بعدد من الضفادع فخدعوا بالنقيق الفيل الذي ذهبت عيناه، فوقع بسبب هذا النقيق في حفرة وأشرف على الهلاك.
وعندها وقفت القبرة على حطام الفيل - إذا صح التعبير - وقالت له في شماتة: "كيف رأيت عظم حيلتي مع صغر جثّتي عند عظم جثّتك وصغر همتك؟".
أتذكّر قصة "القبرة والفيل" وأنا أتابع اليوم المعركة الدامية الدائرة على أرض فلسطين وتحديدًا على ثرى قطاع غزّة بين مقاومته الباسلة وبين المحتل الصهيوني.
فالمقاومة في هذه المعركة، شأنها شأن القبرة في القصة المذكورة أعلاه، لم تسلم بفكرة كونها أضعف من عدوها رغم الدعاية الصهيونية المكثفة والتي سلّم بها نفر غير قليل من العرب، بل آمنت بقدرتها على منازلة هذا العدو وأثبتت هذه القدرة في معركة السابع من أكتوبر/تشرين الأول ٢٠٢٣م، ولا زالت تثبتها من خلال صمودها الأسطوري في مواجهة آلة عسكرية ضخمة تمدها بالسلاح والعتاد قوة عظمى تدعى الولايات المتحدة.
بل إنّ المدقق في المشهد العربي اليوم يمكنه أن يلحظ أن أكثر الحلقات قوة في مواجهة العدو الصهيوني هي تلك التي اعتبرها الخطاب الرسمي العربي حلقات ضعيفة.
وفي مقدمة هذه الحلقات غزّة المحاصرة منذ أكثر من ١٥ عامًا متصلة، ولكنها رغم هذا الحصار والتضييق، صنعت سلاحها بيدها ولا زالت تقارع المحتل مبددةً أساطير تفوّقه.
وغير بعيد من غزّة حلقة أخرى هو العراق الذي تم احتلاله منذ أكثر من عشرين عامًا ومزّقته حروب أهلية ومذهبية، لكن مقاومته تكيل الضربات للقواعد الأمريكية في المنطقة.
أما اليمن، البلد الذي اشتعلت فيه حرب دامت نحو تسع سنوات كاملة ويعاني وفقًا للأمم المتحدة من أكبر فجوة فقر "المسافة بين متوسط الدخل وخط الفقر" في العالم، فقد أثبت أنه أكثر قوة من غيره، فقدّم لفلسطين وقضيّتها ما لم يقدمه أي قطر عربي آخر حتى الآن، حيث بات اليمن بمثابة ذراع بحرية للمقاومة الفلسطينية الباسلة وحقق من خلال عملياته المسلحة المكثفة في محيط باب المندب والبحر الأحمر ما أسماه جنرال صهيوني "حصارًا بحريًا كاملًا" على دولة الاحتلال من خلال تصيّد سفنها العابرة في المنطقة أو منع وصول سفن الإمدادات إليها.
ولا يزال اليمن الذي لم يفرغ من حربه سوى منذ بضعة أشهر فقط يمضي في طريق نصرة القضية الفلسطينية ولا يبدو عابئًا بالتحذيرات الأمريكية والأوروبية على حد سواء.
إن هذه النماذج تؤكد أنّ ضعفنا العربي المزعوم في مقابل تفوّق عدونا وقوّته ليس قدرًا محتومًا كما تصوّر دعاية العدو التي تلقفتها وكرّستها نظم عربية لتبرير عجزها في مواجهته من ناحية وسياستها في التطبيع معه من ناحية أخرى.
وإنما يقاس الضعف والقوة بالإرادة، تلك التي جعلت من قطاع محاصر ندًا لرابع أقوى جيش في العالم وجعلت من العراق خطرًا يهدد الوجود الأمريكي في المنطقة وجعلت من اليمن قوة بحرية إقليمية.
وإنّ الضعاف، أو على الأقل من يتم تصويرهم على أنهم ضعاف، ولا سيما في ذلك القسم من عالمنا الذي يحلو للبعض أن يسميه بالعالم الثالث، لو أنهم كما في مثال القبرة في قصة ابن المقفع المشار إليها في بداية هذا المقال، آمنوا بقوّتهم واجتمعت كلمتهم لأمكنهم التصدي لكل من هو "فيل" متغطرس في هذا العالم.
