لم يقتصر الأمر على الثقافة أو الإعلام أو التربية أو الفكر، بل تعداها جميعًا ليطال مجال المعتقد، باعتباره مكمن التمثّلات الرمزية المؤسسة للمشترك الروحي العام. عاينا ذلك جليًا منذ بداية القرن، من خلال خطابات "حوار الأديان والحضارات" ثم "تقارب الديانات والمعتقدات"، وعايناه أيضًا من خلال انتشار البرامج الرسمية الرافعة للواء التسامح والتعايش والجنوح للسلم، وعاينا تجلياته بالتالي، بطقوس تلك "الصلاة المشتركة" التي أقيمت بأحضان أوشفيتز ببولندا، حيث اصطف كبار حاخامات اليهودية جنبًا إلى جنب مع رموز دينية إسلامية ومسيحية كبيرة، ليحيوا جميعًا ذكرى "تحرير المعتقل".
ما استتبع ذلك من كونه "ديانة إبراهيمية"، ليس بالمحصلة سوى ذاك التوجه الحثيث لدمج وصهر الديانات السماوية الثلاث في "دين عالمي جامع" جديد، يتّخذ من الجذر الإبراهيمي "المشترك" مادة لتلقيح "رسالة سماوية"، أريد لها أن تكون نبع التوحيد، وتكون مبنية على تثمين المشترك واستبعاد ما قد يُفرّق.
"الديانة الجديدة" كانت تروم الالتفاف على الإسلام وتطويع آياته فإذا بضربة الأقصى تباغتهم
لو بحثنا عن الجهة التي تدفع بهذا التصوّر، سنجدها حتمًا ضمن أوراق الدافعين بالتطبيع، من عتاة الإدارة الأميركية، أصحاب "صفقة القرن"، ومن كبار الحاخامات بالعالم، ومن تكتلات "القادة الروحيين" لبعض دول المنطقة، حيث بلغت موجة التطبيع الديني حدّ تأسيس "البيت الإبراهيمي"، ثم العمل الدؤوب لإحياء التراث اليهودي وإدراجه ضمن البرامج التربوية في إحدى الدول المغاربية، دع عنك ما يرصد هنا وهناك لإصلاح ديني مفترى عليه.
كان خط السير واضحًا في ذهن أصحاب المشروع. لم يجل بخلدهم أنّه سيستجد من الأحداث ما سيُفسد "حفل" التطبيع، وينسف المشاريع الفرعية التي كانت تسنده، تبني له الدعائم الرمزية وتسوق له التمثّلات.
إنّ ضربة الأقصى لم تقصم ظهر التطبيع وقد اطمأن أهله إلى مساره، بل دفعت إلى تجميد كل عناصر العقد التي كانت تكوّنه وتنفخ فيه من روحها:
ــ لقد كانت "الديانة الجديدة" تروم الالتفاف على الإسلام، لتصهره في منظومة مسيحية/يهودية قد يكون من شأنها إفراغه من جوهره، وتطويع آياته كي تتساوق مع المنظومة ذاتها، فإذا بضربة الأقصى تباغتهم وتنغّص عليهم.
ــ هناك بند في "اتفاقات أبراهام" البانية لهذه الديانة، ينصّ على أنّ كل سلالة إبراهيم مطالبة بالصلاة في جبل الهيكل (المسجد الأقصى بالمنطوق العبري). بما معناه أنّه سيصبح لليهود شرعية دينية للصلاة بالأقصى جنبًا إلى جنب مع المسلمين. بيد أنّ المقاومة نسفت هذه السردية نسفًا، وأعادت التأكيد على أنّ هذا المسجد هو إسلامي الهوية والهوى، وإلّا ما اتخذته شعارًا لها (طوفان الأقصى) لتعيد له طهرانيته وهيبته.
تقتيل إسرائيل للأبرياء الفلسطينيين والتنكيل بجثثهم لا يمكنه أن يتساوق مع الأخلاق الإبراهيمية
ــ وقد كانت "الديانة الجديدة" تراهن على فرض القبول بإسرائيل، فجاءت ضربة الأقصى لتؤكّد أنّ مسلسل الإبادة الجماعية والتطهير العرقي الذي مارسته إسرائيل بحق الفلسطينيين، قد فضح الوجه القبيح لهذا الاحتلال، ولتعطي البرهان على استحالة التعايش مع من لا يراعي حرمات ولا يقيم وزنًا للقوانين، فما بالك بالشرائع.
ــ وقد كانت "الديانة" إياها تراهن على الأخلاق والقيم لبناء المشترك الديني الإنساني، في حين أنّ تقتيل إسرائيل للأبرياء الفلسطينيين، والتنكيل بجثثهم بعد استخراجها من مدافنها واغتيال الرضّع بمباركة من حاخاماتها، قد رفع الحجاب عن استعلاء ديني مقيت، لا يمكنه أن يتساوق بالمرة مع الأخلاق الإبراهيمية المتعارف عليها.
(خاص "عروبة 22")