وجهات نظر

فيما جرى مع وائل الدحدوح .. وأقرانه

في الخامس والعشرين من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، قتل الإسرائيليون زوجته، واثنين من أبنائه وحفيده، وفي الخامس عشر من ديسمبر/كانون الأول استهدف فريقه، فأصيب هو، واستشهد زميله سامر أبو دقة، ولم تمضِ أسابيع حتى استهدف الإسرائيليون سيارة ابنه البكر؛ حمزة (27 عامًا)، فيما لا يمكن اعتباره سوى عملية اغتيال مقصود ومتعمّد، ليس فقط لعائلة وائل الدحدوح فردًا فردًا، ولا للقناة التي يراسلها "الجزيرة"، بل لكل ما يرمز إليه: الصمود، والصبر، وكشف الحقيقة.

فيما جرى مع وائل الدحدوح .. وأقرانه

في الحقائق المجرّدة والكاشفة، وبالأرقام:

• أنّ عدد الصحفيين الذين قتلتهم إسرائيل منذ بداية الحرب على غزّة، وحتى الثامن من يناير وصل إلى 106 من شهداء الحقيقة، آخرهم الزميل عبد الله إياد.

• حسب بيانات اللجنة الدولية لحماية الصحفيين CPJ والموثّقة بالأسماء، يتجاوز عدد الصحفيين الفلسطينيين الذين قتلتهم إسرائيل خلال عام 2023 ثلاثة أرباع إجمالي عدد الصحفيين الذين لقوا حتفهم في العالم كلّه أثناء ممارستهم عملهم. (من بين 95 صحفيًا كان هناك 72 فلسطينيًا).

يتجاوز عدد الصحفيين الفلسطينيين الذين قتلتهم إسرائيل خلال شهرين عدد الصحفيين الذين قُتلوا خلال الحرب العالمية الثانية

• يصل عدد الصحفيين الفلسطينيين الذين قتلتهم إسرائيل خلال شهرين فقط 87 صحفيًا، وهو عدد يتجاوز عدد الصحفيين الذين فقدوا حياتهم خلال ست سنوات كاملة من الحرب العالمية الثانية (69 صحفيًا حسب بيانت مؤسسة منتدى الحرية - واشنطن). وأحسب أنّ لذلك دلالته.

وفي الأخبار الدالة أيضًا:

أنّ الإسرائيليين يرفضون دخول الصحفيين الأجانب لقطاع غزّة لتغطية ما يجري هناك، وعندما اضطرت رابطة الصحافة الأجنبية في القدس إلى تقديم التماس بهذا الشأن إلى المحكمة العليا في إسرائيل بعد أن دخلت الحرب شهرها الرابع رُفض الالتماس بدعوى أنّ "السماح لصحفيين بدخول غزّة قد يؤدّي إلى كشف تفاصيل العمليات".

هل هناك دليل أكثر من ذلك على أنّ هناك من لا يريد للعالم أن يعرف الحقيقة.

كما لم يتردّد الإسرائيليون في تصريحاتهم الرسمية - والتي أشار إليها بالمناسبة الفريق القانوني لجنوب أفريقيا في دعوى محكمة العدل الدولية - بالتعبير عن نواياهم في القتل والتدمير والتهجير القسري للفلسطينيين، كذلك لم يترددوا في تهديد "كاشفي الحقيقة" بإسكاتهم بالقوة.

بين قائمة الضحايا الطويلة، الأكاديمي الرفيع، والشاعر الرقيق رفعت العرعير؛ أستاذ الأدب الإنجليزي والذي تحدث قبل اغتياله عن تهديدات وصلته عن طريق الهاتف ليتوقف عن الحديث بالإنجليزية مع وسائل الإعلام الأجنبية "وإلا"، وهو ما جرى في نهاية المطاف باستهداف شقته، دون غيرها في البناية ذاتها، فيستشهد مع شقيقه وشقيقته وأبنائهما.

وبالمناسبة، لم ينسَ الإسرائيليون أن يضعوا الصحفيين اللبنانيين أيضًا على قائمة ضحاياهم. فهناك، حتى كتابة هذه السطور ثلاثة صحفيين استهدفتهم القذائف الإسرائيلية منذ أكتوبر/تشرين الأول الماضي، بينهم عصام عبد الله مراسل وكالة "رويترز"، بالإضافة إلى فرح عمر التي لم تكن قد بلغت الخامسة والعشرين والتي قضت مع زميلها المصوّر ربيع المعماري في الحادي والعشرين من نوفمبر/تشرين الثاني.

أعرف أنّ من بين المتحدثين الإسرائيليين من يعمد، كعادتهم إلى خلط الأوراق، فيرد على الاتهام الثابت باستهدافهم الصحفيين، أو كاشفي الحقيقة، بمعايرتنا بما تقوله التقارير الدولية من أنّ الصحافة في بلداننا العربية ليست في أحسن حالاتها - سمعتُ أحدهم يقول ذلك على CNN -، ولكنني أعرف أيضًا أنّ هناك من يدعي أنّ إسرائيل "واحة الديمقراطية" في الشرق الأوسط، كما أعرف قبل ذلك وبعده أنّ الصحافة في كل الأحوال وفي كل مكان ليست جريمة، وأنّ قتل الصحفيين لإسكاتهم، أيًا كانت المبررات، أو التبريرات هو الجريمة بالتعريف.

الذين شاهدوا بلينكن يكاد يبكي، كانوا قد شاهدوا اغتيال أبو عاقلة وتقاعس الإدارة الأمريكية عن محاسبة الجناة

اغتيال الدحدوح الابن كشف أيضًا وللمرة الألف عن ما نعرف من تحيّزات فجة للإدارة الأمريكية التي تخدعنا بدبلوماسية الكلمات التي لم تصدقها الأفعال أبدًا. كلنا شاهدنا الوزير أنتوني بلينكن يقف بجوار وزير الخارجية القطري ليجيب مضطرًا على أسئلة الصحفيين الزملاء بوجه حزين وعبارات للمواساة: "أنا آسف جدًا جدًا على الخسارة التي لا يمكن تخيّلها التي عانى منها زميلكم الدحدوح.. أنا والد أيضًا.. ولا أستطيع أن أتخيّل المعاناة التي عاشها ليس مرة واحدة بل مرتين.. هذه مأساة لا يمكن تصوّرها".

يراهن بلينكن على ذاكرتنا الضعيفة، وينسى أنّ الذين شاهدوه يكاد يبكي، كانوا قد شاهدوا أيضًا قبل أشهر فقط اغتيال صحفية "الجزيرة" البارزة شيرين أبو عاقلة (مايو/أيار 2022)، ثم تقاعس الإدارة الأمريكية عن محاسبة الجناة، رغم أنها تحمل جنسية الدولة التي لا تتوانى أبدًا في تحريك جيوشها للثأر لمقتل أي من مواطنيها.

هل تذكرون ما عُرف بـ Sigonella Crisis (أكتوبر/تشرين الأول 1985) عندما لم يتردد كاسبار واينبرجر؛ وزير الدفاع الأمريكي يومها في أن يأمر طائراته الحربية باعتراض الطائرة المصرية التي كانت في طريقها إلى تونس تحمل مقاتلي "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" المسؤولين عن اختطاف السفينة الإيطالية Achille Lauro، وذلك في إطار صفقة لإنهاء عملية الاختطاف.

يومها أجبرت الطائرات الحربية الأمريكية الطائرة المصرية المدنية على الهبوط في قاعدة للناتو في صقلية، ليس فقط بالمخالفة للقانون الدولي، بل وفي انتهاك صارخ لبنود الاتفاقية الخاصة بالقاعدة ذاتها. ولم يكن ذلك كله إلا لمحاسبة الخاطفين الفلسطينيين على موت مواطن أمريكي (يهودي) كان على متن السفينة.

ولمن يذكر، لم يكتفِ الأمريكيون بذلك، بل قاموا بعد 38 عامًا كاملة، وبتعليمات من جورج دبليو بوش بإرسال قوة خاصة لاختطاف أبو العباس زعيم "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" من أحد ضواحي بغداد (أبريل/ نيسان 2003) إبان الغزو، رغم أنّ مسألة القتيل الأمريكي (اليهودي) كان قد تم تسويتها مع ذويه، ورغم أنّ اتفاقية أوسلو كانت قد قضت بإغلاق هذا الملف ضمن ملفات أخرى. السؤال البسيط هنا: هل حدث أي من ذلك لمحاسبة قتلة المواطنة الأمريكية (المسيحية-الفلسطينية) شيرين أبو عاقلة؟.

ما فعله الإسرائيليون مع مراسلي "الجزيرة"، الدحدوح وأبو عاقلة، إسكاتًا وتخويفًا وإرهابًا للصحافة والصحفيين لم يكن أبدًا عرضيًا أو مستلًا من سياقه، إذ تعرف "الجزيرة"، كما العاملون بها، تاريخًا من الصدامات مع أنظمة ودول لا تحب الحقيقة، أو لا تريد للناس معرفتها. قصف الأمريكيون مكاتبها في بغداد (أبريل/نيسان 2003)، وقصفها الإسرائيليون في غزّة (مايو/أيار 2021)، وأغلقت تلك المكاتب في غير عاصمة عربية، كما اعتُقل مراسلوها، وحُجبت مواقعها. ثم كان أن شاهدنا على الشاشة واقعة اغتيال مراسلتها الأبرز؛ أبو عاقلة، واعتداء قوات الاحتلال على جنازتها، قبل أن يبكينا مشهد وائل الدحدوح باكيًا عائلته مرتين ممسكًا بالميكروفون، وكأنه يذكرنا بقول رسولنا الكريم: "يأتي على النَّاسِ زمانٌ الصَّابرُ فيهم على دينِه كالقابضِ على الجمرِ"، كذلك الصابرون على نقل الحقيقة في زمن يحكمه من لا يريد للناس معرفتها.

نشهد بعجزنا وهواننا وندرك أنّ استبدادًا عرفناه لقرون كان كفيلًا بأن نصل إلى هذا الدرك

على المقهى الباريسي قبل أيام، والجو يملأه صوت المتظاهرين الغاضبين للحق والإنسانية؛ المطالبين بإيقاف "المجزرة" الإسرائيلية في غزّة، قال لي مُحدّثي: ليت كان لـ"الجزيرة" قناة ناطقة بالفرنسية. ساعتها أدركت أهمية أن يكون لدينا مثل تلك الصحافة. ولماذا قتل الأمريكيون طارق أيوب في بغداد، ولماذا فعل الإسرائيليون ما فعلوه بوائل الدحدوح، وسامر أبو دقة، ومن قبلهما شيرين أبو عاقلة.

وبعد،،

فهذا ليس مقالًا عن وائل الدحدوح وحسب، بل عن كل مكلوم فلسطيني فقدَ أسرته - وهم بالآلاف -، وسط هذا الخزي العربي المهين، وعن كل صحفي، وناقل للحقيقة غامر بحياته لكي يوثّق الجريمة، وينقل لنا مشاهد البطولة والإيمان والصبر، الذي ربما لم نعرف مثله منذ أن قرأنا في مدارسنا الابتدائية عن الخنساء.

نحن لا نعتذر لك يا وائل، بل نشهد بجبننا وعجزنا وهواننا على الناس. وندرك أنّ استبدادًا عرفناه لقرون كان كفيلًا بأن نصل إلى هذا الدرك بعد أن اكتفى بعضنا بشعارات وهتافات "الأمة الواحدة، ذات الرسالة الخالدة"، وبعضنا الآخر بترديد الآية الكريمة "كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ"، ناسين، أو متناسين، ضرورة الأخذ بالأسباب.

عذرًا يا وائل، فليس لدي حقًا ما أقوله، ففي الجوار 21 ألف شهيد، أو يزيد، ولا أحد في العالم الواسع يعير اهتمامًا لهذا الوطن العربي "الكبير"، أو لجامعته "العريقة".. لا غرابة في الأمر، فالأثر في النهاية يدل على المسير، أو هكذا تعلّمنا.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن