عندما يتحدث الرئيس فيؤمَّن رئيس الحكومة ووزرائه على قوله، يخاطبهم مستشهدًا فيكتفوا بهزّ الرؤوس أو التعليق بكلمة أو اثنتين "بالضبط.. تمام يا فندم.. حصل سيادتك"، لا يجرؤ أحدُ منهم أن يناقشه أو يراجعه. ولو قُدر وخاطب أحدهم الجمهور في غياب فخامته، فلا يبدأ حديثه إلا بعد التأكيد على أنّ ما يطرحه هو تنفيذ لتوجيهات الرئيس وبناءً على تعليماته.
كما غيرها من بلاد العالم الثالث، الحكومة في بلادنا أيًا كانت كفاءتها، ما هي إلا تجمُّع لموظفين طيعين، لا يمكن لأعضائها الاعتراض على إرادة الرئيس أو مواجهته بأي نقص أو عوار بسياساته.
رغم ذلك فعندما تتأزم الأمور ويتكشف عدم جدوى السياسات المتبعة، وينتاب الناس الضجر والتأفف من إهدار حقهم في العيش الكريم، تُحَمّل "حكومة الموظفين" المسؤولية، ويتم تقديمها "كبش فداء" على مذبح الرأي العام.
حتى تغيير الحكومة أو تعديلها ستظل الحملة التي تستهدفها قائمة لتفريغ شحنات الاحتقان الشعبي
ما أن انقضت الانتخابات الرئاسية التي حسمها المرشح عبد الفتاح السيسي، تصاعدت وتيرة الانتقادات الموجهة إلى رئيس الحكومة مصطفى مدبولي ووزرائه، فلا يمر يوم دون أن تَفتح منصات الإعلام - الموالية للسلطة - ومعها مجلس النواب الذي ينتمي معظم أعضائه لأحزاب الموالاة، النار على الحكومة، متهمين إياها تارةً بأنها السبب في تفاقم الديون وشح العملة الأجنبية وارتفاع معدلات التضخم، وتارةً أخرى بأنّ سوء إدارتها هو ما أدى إلى غلاء الأسعار وغياب السلع وانقطاع الكهرباء وعودة طوابير الخبز إلى آخر ما تتداوله صحف القاهرة الصباحية وبرامج الفضائيات المسائية، وتتعالى به صرخات النواب تحت قبة البرلمان.
ومع ارتفاع منسوب الغضب الشعبي، توالت المطالبات بتغيير تلك الحكومة باعتبارها "المسؤولة عن كل تراجع أو إخفاق"، وفيما طرح البعض رحيل الوزارة بالكامل وتشكيل غيرها، ذهب البعض الآخر إلى الاكتفاء بتعديل يشمل بعض الحقائب الخدمية والاقتصادية.
كان أبزر الأسماء التي تم تداولها لتكليفها بتشكيل حكومة جديدة، المدير التنفيذي لصندوق النقد الدولي محمود محي الدين الذي تولى حقيبة الاستثمار في آخر عهد الرئيس الراحل حسني مبارك، والذي اشترط، بحسب مصادر قريبة من دوائر صناعة القرار، أن "يُمنح صلاحيات كاملة لتنفيذ برنامج إنقاذ للاقتصاد المصري دون تدخّل أو ضغوط من أي جهة"، وهو ما يتعارض مع فلسفة السلطة الحالية التي لا تقبل سوى أن تقود الدفة منفردة، فخرج من بورصة الترشيحات.
ما حدث مع محي الدين تكرر مع آخرين عُرضت عليهم الوزارة فوضعوا الشرط نفسه، ومع توالي الاعتذارات صار البديل أن يتم إجراء تعديل وزاري محدود، وفق المصدر نفسه الذي لم يستبعد كلية أن يكون هناك تغيير شامل للحكومة وتكليف أحد أعضائها الحاليين برئاستها.
حتى الآن لم يُحسم ما إذا كان التغيير أو التعديل سيُجرى خلال الأيام المقبلة أم سيؤجل إلى ما بعد أداء الرئيس المنتخب اليمين الدستورية لولايته الثالثة مطلع شهر أبريل/نيسان المقبل، وحتى هذا التاريخ ستظل الحملة التي تستهدف الحكومة قائمة، لتفريغ شحنات الاحتقان الشعبي من جهة، ومن جهة أخرى للإيحاء بأنّ هناك صحافة تمارس دورها في نقل نبض الناس، وأنّ هناك برلمانًا يمارس دوره الرقابي في مساءلة الحكومة.
قبل أيام بشّر رئيس الحكومة المصريين بأنّ الأزمة الاقتصادية مستمرة لنحو 6 سنوات، وتعهّد بأن الدولة ستعمل على تجاوزها قبل 2030، وهو العام ذاته الذي ستنتهي فيه ولاية الرئيس الثالثة، "لا نتحدث عن 20 أو 50 عامًا، بل هي 6 سنوات.. نعمل على تجاوز هذه الأزمة ونتحرك حتى نصل لعام 2030، ونستعيد خلال ذلك مسار النمو.. ونحقق المعدلات التي يحلم بها كل مواطن".
حديث مدبولي عن الأزمة والمعدل الزمني لتجاوزها، جاء خلال احتفالية تسليم أول 3 أبراج إدارية بالعاصمة الإدارية منهم البرج الأيقوني الذي أثارت تكلفته الباهظة المقدرة بنحو 3 مليارات دولار حالة من التململ، فالبرج المذكور وغيره من المشروعات ذات التكلفة المليارية بالعاصمة الإدارية والعلمين الجديدة وغيرها، ثبت بالتجربة أنها لم تجدِ نفعًا ولم تنعش شرايين الاقتصاد المسدودة كما بشّرت السلطة، وكان أَوْلى أن تُضخ المليارات التي صُرفت عليها في مشروعات إنتاجية تحد من الاستيراد وتوفر فرص عمل.
أزمة مصر في العقيدة السياسية لسلطة لا تقبل بأي شريك في الحكم حتى لو جاء بإرادتها
ما هو أدهى، أنّ الدولة التي وجّهت وفدًا حكوميًا للتفاوض مع صندوق النقد لصرف الشريحة الثانية والثالثة من قرض الصندوق وقيمتها 700 مليون دولار، وطلب 3 مليار دولار قرض إضافي قبل أيام، وتبحث عن الوفاء بالتزاماتها من أقساط وفوائد ديون، أعلنت عن عزمها الشروع في تنفيذ المرحلة الثانية من العاصمة الإدارية الجديدة بتكلفة لن تقل عن 300 مليار جنيه.
الواقع أنّ أزمة مصر لا يتحملها مدبولي ولا وزراؤه الذين يتم جلدهم على مسالخ الإعلام والبرلمان.. الأزمة في العقيدة السياسية لسلطة لا تقبل بأي شريك في الحكم حتى لو جاء بإرادتها، وتُصر على احتكار القرار واستبعاد أي طرف من عملية صناعته حتى لو كان ولاؤه لها.
إن أرادت السلطة أن تجنّب البلاد أي انفجار محتمل فعليها أولًا الاعتراف بالمسؤولية عما جرى من إخفاقات، ثم وضع قواعد لمرحلة جديدة يُحترم فيها الدستور وقواعد المكاشفة والمساءلة والمحاسبة، وبما يسمح بوجود صحافة حرة وبرلمان يعبّر عن إرادة الناخبين ليمارسا دورهما في الرقابة الحقيقية على حكومة تمثّل تطلعات الشعب.
(خاص "عروبة 22")