بايدن دعا المسلمين والعرب الأمريكيين، الذين يعرفون مواقف ترامب جيدًا، إلى إعادة النظر في حساباتهم والتصويت لصالحه كي يستمر في منصبه أربع سنوات إضافية. لكن ليس العرب والمسلمون الأمريكيون هم فقط من يرتعدون من فرص ترامب القوية في العودة للبيت الأبيض بروح انتقامية مِن كل مَن تنفّسوا الصعداء للخلاص منه، واعتبروا السنوات الأربع التي قضاها كرئيس للقوة العظمى الوحيدة في العالم كارثية بكل المقاييس، فالموقف ذاته ينطبق على الشباب الأمريكي المنتمي للحزب الديمقراطي والساخطين على سياسات بايدن منذ بدء حرب الإبادة الصهيونية على غزّة، وكذلك أعداد متزايدة من أعضاء مجلسي النواب والشيوخ من المنتمين لما يسمى بالجناح التقدمي للديمقراطيين، فضلًا عن المئات من الموظفين المعينين في البيت الأبيض ووزارات الخارجية والدفاع ونحو عشرين وكالة حكومية أخرى.
وهناك الكثير من الديمقراطيين عمومًا لا يرون بايدن الأكثر قدرة على إلحاق الهزيمة بترامب في الانتخابات المقبلة، والذي تبقى حظوظه أفضل حتى الآن في استطلاعات الرأي بفارق ضئيل، سواء بسبب تقدّم الرئيس الحالي في العمر أو فقدانه للكاريزما والقدرة على بعث الأمل وتجاوز الانقسامات شديدة الحدة التي تمثل تهديدًا حقيقيًا للمجتمع الأمريكي من الداخل مثل قضايا الإجهاض وامتلاك السلاح وبرامج الحماية الاجتماعية، وبعيدًا عن أي مخاطر خارجية تقليدية كما هو الحال مع روسيا والصين.
لو نفّذوا تهديدهم وقاموا بمقاطعة الانتخابات فإنّ ذلك سيخدم المرشح الجمهوري بكل تأكيد
وعلى الصعيد الدولي، أشار مشاركون عدة في منتدى دافوس الذي انعقد بسويسرا قبل أيام إلى أنّ الشبح المخيف الذي خيّم بظلاله على اجتماعات كبار المسؤولين السياسيين والاقتصاديين من كل أرجاء العالم هو احتمال عودة ترامب للبيت الأبيض.
ومن المعروف أنّ ترامب أذلّ الأوروبيين وحلفاء أمريكا التقليديين كاليابان وكوريا الجنوبية خلال السنوات الأربع التي قضاها رئيسًا، وطالبهم بدفع نفقات حماية أمنهم عبر القوات الأمريكية التي تتمركز على أراضيهم منذ عقود، وكان يرفض مصافحة رئيسة الوزراء الألمانية السابقة أنجيلا ميركل أمام الكاميرات، كما هدد بالانسحاب من تحالف الناتو العسكري الذي تموّل واشنطن معظم نفقاته، وانسحب بالفعل من اتفاقية باريس للمناخ وعدة منظمات دولية أخرى لم تنصع للأوامر الأمريكية.
لكن المعضلة الحقيقية التي يواجهها الشباب الأمريكي التقدمي الغاضب، وكذلك الأمريكيون والمسلمون العرب، أنهم لو نفّذوا تهديدهم وقاموا بمقاطعة الانتخابات على أقل تقدير، لأنه من المستحيل بالطبع أن يصوّتوا لصالح ترامب المعروف بتصريحاته العنصرية واعترافه بالقدس المحتلة عاصمة للكيان المحتل وكذلك ضمّ الجولان السوري، فإنّ ذلك سيخدم المرشح الجمهوري بكل تأكيد.
ويحذر مقربون من بايدن من أنّ هذا السيناريو نفسه هو ما سمح لترامب بالفوز في 2016 عندما امتنع الشباب الأمريكي الديمقراطي عن دعم المرشحة المنافسة التقليدية هيلاري كلينتون بعد أن هاجمت بضراوة وبوسائل غير أخلاقية مرشحهم المفضل بارني ساندرز بسبب أفكاره التقدمية.
كبار المسؤولين في إدارة بايدن يشيرون إلى أنه رغم كل الغضب المفهوم من قبل الحلفاء العرب من الدول الموصوفة بالمعتدلة، مثل مصر والأردن والسعودية والإمارات وقطر، بسبب الرفض الصارم لوقف إطلاق النار في غزّة قبل توجيه ضربة قاصمة لـ"حماس"، فإنّ الوضع كان سيصبح أسوأ بكثير لو كان ترامب هو من يشغل منصب الرئاسة وقت وقوع هجمات السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
وكانت وسائل الإعلام الأمريكية قد أشارت في تقارير متتالية الأسبوع الماضي إلى أنّ نتنياهو رفض تقريبًا كل الطلبات التي قدّمها له بايدن، سواء بالتخفيف من كثافة القصف الجوي وتجنب إلحاق المزيد الخسائر في صفوف المدنيين الفلسطينيين، أو التوصل لوقفات إنسانية قصيرة تسمح باستئناف تبادل الأسرى وإدخال المزيد من المساعدات الإنسانية، ولكنه وافق على طلب واحد فقط وهو عدم توسيع الحرب في غزّة لتشمل لبنان.
بالطبع يمكن تخيّل أنه لو كان ترامب في البيت الأبيض، لوافق فورًا على توسيع الحرب لتشمل لبنان، وربما اليمن والعراق وسوريا وكل الدول التي تنطلق منها الهجمات الآن ضد الكيان الصهيوني تحت شعار الدعم والمساندة للشعب الفلسطيني في غزّة، وربما كان قد أمر القوات الأمريكية للتوجه مباشرة لقصف غزة في عملية مشتركة مع جيش الاحتلال.
سيبقى الباب دائمًا مفتوحًا أمام كل أنواع المفاجآت التي قد تغيّر النتيجة المتوقعة
كما كان من المستحيل أن نستمع، ولو حتى من قبيل ترديد الأوهام كما هو الحال الآن، إلى الحديث الذي يردده بايدن عن رفض تهجير الفلسطينيين من قطاع غزّة إلى مصر أو إعادة احتلال القطاع والتمسك بحل الدولتين وضرورة وجود أفق سياسي يسمح بدمج الكيان الصهيوني في المنطقة واستئناف مسار تطبيع العلاقات، خاصة مع السعودية، التي لم يستبعد بايدن أن يكون أحد أهداف "حماس" من عملية "طوفان الأقصى" هو تعطيل مسار التطبيع الذي كاد أن يقترب من تحقيق نتيجة إيجابية بين الرياض وتل أبيب.
صحيح أنّ نوفمبر/تشرين الثاني يبقى بعيدًا بالمعايير المتسارعة للانتخابات الأمريكية، وسيبقى الباب دائمًا مفتوحًا أمام كل أنواع المفاجآت التي قد تغيّر النتيجة المتوقعة، لكن المؤكد أنّ العرب والمسلمين الأمريكيين تحديدًا قد يضطرون عند نقطة ما إلى تجرّع السم والذهاب للتصويت لصالح بايدن وذلك لمنع كارثة أكبر بكثير ستحل بأمريكا والعالم لو كان ساكن البيت الأبيض مطلع العام 2025 هو المجنون ترامب.
(خاص "عروبة 22")