صحافة

محكمة العدل تفضح استخفاف الغرب بحياة الفلسطينيين

عزت سعد

المشاركة
محكمة العدل تفضح استخفاف الغرب بحياة الفلسطينيين

في 26 يناير الماضي، أصدرت محكمة العدل الدولية أمرا بتدابير فورية مؤقتة، بناء على دعوى كانت جنوب إفريقيا قد تقدمت بها ضد إسرائيل في 29 ديسمبر الماضي حول «تطبيق اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها (1948) فيما يتعلق بأبناء الشعب الفلسطيني في غزة».

ووفقا لأمر المحكمة، تشمل التدابير المؤقتة التي ألزمت المحكمة إسرائيل بالامتثال إليها: منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها فيما يتعلق بالفلسطينيين في غزة، واتخاذ جميع التدابير التي في وسعها لمنع ارتكاب جميع الأعمال التي تحرمها المادة 2 من الاتفاقية، وبصفة خاصة: قتل أعضاء المجموعة، التسبب في ضرر جسدي أو عقلي خطير لأعضائها، فرض ظروف معيشية متعمدة على المجموعة بهدف تدميرها المادي كليا أو جزئيا وفرض تدابير تهدف إلى منع الولادات داخل المجموعة. كما أمرت المحكمة إسرائيل بأن تضمن فوريا عدم قيام جيشها بارتكاب أي من الأفعال المشار إليها، واتخاذ جميع التدابير، لمنع ومعاقبة التحريض المباشر والعلني على ارتكاب الإبادة الجماعية فيما يتعلق بأبناء الشعب الفلسطيني في القطاع، واتخاذ تدابير فورية وفعالة لتمكين توفير الخدمات الأساسية والمساعدات الإنسانية اللازمة بشكل عاجل للتغلب على الظروف المعيشية غير المواتية التي يواجهها الشعب الفلسطيني في غزة، واتخاذ تدابير فعالة لمنع تدمير، وضمان الحفاظ على الأدلة المتعلقة بالادعاءات بارتكاب الأفعال المشار إليها في المادتين الثانية والثالثة من الاتفاقية، وبأن تقدم تقريرا إلى المحكمة بشأن جميع التدابير المتخذة من قبلها خلال شهر واحد من تاريخ هذا الأمر.

ويلاحظ أن أمر المحكمة صدر بإجماع قضاتها، عدا القاضية الأوغندية سيبوتيندي. بل إن القاضي المؤقت الذي عينته إسرائيل لتمثيلها في القضية، وفقا لقواعد المحكمة، انضم إلى قضاة المحكمة فيما يتعلق بالإجراء الذى يأمر إسرائيل باتخاذ جميع التدابير لمنع ومعاقبة التحريض على ارتكاب الإبادة الجماعية ضد أبناء الشعب الفلسطيني في غزة، بينما خالفت القاضية الأوغندية إجماع قضاة المحكمة على طول الخط.

يهمنى هنا تأكيد النقاط التالية بصفة خاصة:

1) إن أمر المحكمة يمثل علامة فارقة في تاريخ نضال الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال الإسرائيلي وخطوة تاريخية غير مسبوقة، سعت الولايات المتحدة دائما إلى حرمان الفلسطينيين من اللجوء إليها لإنصافهم. وليس من المستغرب أن تظل الولايات المتحدة في حال إنكار بأن ارتكاب إسرائيل أعمال إبادة لا أساس له من الصحة، حتى بعد أن أصدرت المحكمة أمرها.

2) إن الأمر الصادر عن المحكمة، فضلا عن أنه يخاطب جميع الدول الأطراف في اتفاقية عام 1948، التي تشكل أحكامها جزءا لا يتجزأ من مفهوم «القواعد الآمرة» في القانون الدولي الملزمة لجميع الدول، قد كشف خداع وكذب النخب السياسية الحاكمة في الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، خاصة في الدول التي انخرطت في دعم إسرائيل عسكريا وماديا وسياسيا منذ بدء جرائمها في غزة.

وفي تقديري أن أمر المحكمة، لن يردع هذه الدول عن مضيها قدما في إبادة الشعب الفلسطيني بالتواطؤ مع إسرائيل. إذ إن ما تقوم به في هذا الشأن هو امتداد لإرث من جرائم الإبادة الجماعية التي ارتكبتها هذه الدول عبر تاريخها الاستعماري. وفي هذا السياق، جاء اهتمام جنوب إفريقيا بفلسطين، على أساس أن ممارسات إسرائيل الفظيعة واللاإنسانية، أي الفصل العنصري والتهجير والظلم والاستهتار بحقوق الإنسان، هي ممارسات تتقاطع مع ممارسات مماثلة للقوى الاستعمارية في إفريقيا في الماضي. وبمعنى آخر جاء اهتمام جنوب إفريقيا بفلسطين انعكاسا للحساسية تجاه نظام الفصل العنصري البغيض. وبالمثل يرى الفلسطينيون نضالهم من أجل التحرر في سياق نضالات معظم الدول الإفريقية ضد الاستعمار الغربى.

وحتى ألمانيا، ذكرتنا الرئاسة الناميبية ــ في تغريدة على موقع (x) في 13 يناير الماضي ــ قال فيها «على أرض ناميبيا ارتكبت ألمانيا أول جريمة إبادة في القرن العشرين في 1904 ــ 1908، راح ضحيتها عشرات الآلاف من الأبرياء في ظروف هي الأكثر وحشية وغير إنسانية». وتضيف التغريدة، أنه بالنظر إلى عدم قدرة ألمانيا على استخلاص الدروس من ماضيها المرعب، يعرب الرئيس «عن عميق قلقه من إعلان ألمانيا، في 12 يناير 2024، شجبها دعوى جنوب إفريقيا لمحكمة العدل الدولية ضد إسرائيل بارتكاب جرائم إبادة»، متجاهلة عمدا مقتل 23 ألف فلسطيني في غزة وتشريد 85% من أبناء القطاع يعانون الجوع وانعدام الخدمات الأساسية».

3) وجه البعض انتقادات إلى المحكمة بسبب عدم إشارة الأمر الصادر عنها إلى إلزام إسرائيل بوقف أعمالها العسكرية، حيث سيكون من المستحيل تنفيذ ما أمرت به المحكمة من تدابير بدون وقف لإطلاق النار. وردا على هذه الانتقادات بالإمكان القول بأن أمر المحكمة ينطوي ــ ضمنا ــ على ضرورة وقف إطلاق النار الذي يعد متطلبا ضروريا لوضع هذه التدابير موضع التنفيذ.

وخلال جلسات الاستماع أمام المحكمة يومي 11 و12 يناير، كان واضحا صعوبة قيام المحكمة بطلب وقف إطلاق النار أو تعليق العمليات العسكرية، حيث احتج دفاع إسرائيل بأن مثل هذا الإجراء يعني «تعليقا أحاديا للعمليات العسكرية من جانب أحد أطراف الصراع فقط، وترك الطرف الآخر (حماس) حرا في مواصلة الهجمات، وهو ما لديه نية معلنة للقيام به». وفضلا عن أن المحكمة معنية فقط بالدعاوى فيما بين الدول، وهو ما لا ينطبق على حماس، أشار خبراء قانونيون إلى أن دفاع جنوب إفريقيا لم يتعامل بشكل كامل مع عواقب العمليات العسكرية المستمرة التي تشنها حماس، بما في ذلك إطلاق الصواريخ على إسرائيل. وبينما أشار ممثل إسرائيل إلى قضية البوسنة والهرسك ضد يوغسلافيا، والتي لم تأمر فيها المحكمة بوقف الأنشطة العسكرية كإجراء مؤقت «على الرغم من استمرار الإبادة الجماعية كما قيل».

ومع ذلك لم تلتفت المحكمة إلى ادعاءات الدفاع الإسرائيلي بأن الخسائر المدمرة التي لحقت بالسكان المدنيين في غزة كانت نتاجا لـ«مأساة غير محددة» أو «مسؤولية حماس وحدها» كما ادعى محامو إسرائيل والمتحدثون باسمها مرارا وتكرارا. فقد عكس أمر المحكمة اقتناعا بأن هذه الخسائر المدمرة كانت نتيجة لتكتيكات محددة تم اعتمادها من جانب إسرائيل كجزء من عملية عسكرية منسقة، بما في ذلك الاستخدام الواسع النطاق للذخائر غير الموجهة أو المسماة بـ«الغبية»، والقصف المدفعي الثقيل في المناطق المكتظة بالسكان (التي اعترف الرئيس بايدن بأنها تشمل «القصف العشوائي»)، وفرض قيود صارمة على وصول الغذاء والماء والكهرباء وغيرها من الضروريات إلى السكان المحاصرين، وعمليات الإخلاء القسري المتكررة للسكان من منازلهم، والدمار الهائل للمباني السكنية والمدارس ودور العبادة والمراكز الثقافية الأخرى.

4) يمكن القول بأن أمر المحكمة بعث الحياة في النظام الدولي متعدد الأطراف ممثلا في منظمة الأمم المتحدة ووكالاتها المعنية، حيث أنه بجانب الأدلة الموثقة من البيانات والسياسات الرسمية لقادة إسرائيل والتي استشهدت بها جنوب إفريقيا لإظهار «النية المحددة لتدمير جماعة (الشعب الفلسطيني) بعينها، كليا أو جزئيا»، أخذت المحكمة بحزمة واسعة من الأدلة المستفيضة من وكالات الأمم المتحدة حول الأثر الإنساني لعمليات الجيش الإسرائيلي، مستخلصة من ذلك قيام إسرائيل بفرض ظروف معيشية تهدف إلى تدمير حياة الفلسطينيين في غزة. وعلى سبيل المثال في رسالة بتاريخ 5 يناير إلى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، كتب الأمين العام للأمم المتحدة: «ويتفشى الجوع والعطش، وتلوح في الأفق مجاعة واسعة النطاق، وفقا لبرنامج الأغذية العالمي. ويواجه أكثر من نصف مليون شخص ــ ربع السكان ــ ما يصنفه الخبراء بمستويات كارثية من الجوع. وتشير منظمة الصحة العالمية إلى أن 13 مستشفى فقط من أصل 36 مستشفى في غزة لا تزال تعمل، ولكن بشكل جزئي فقط. إنهم غارقون في حالات الصدمة... إن كارثة الصحة العامة تتطور بسرعة في غزة. وتنتشر الأمراض المعدية في الملاجئ المكتظة. الظروف الصحية مروعة».

كذلك يمكن القول بأن التدابير المؤقتة التي أمرت بها المحكمة كانت صدى للقرار التوفيقي رقم 2720 الذي صدر عن مجلس الأمن الدولي في ديسمبر الماضي، والذي طالب إسرائيل بإيصال المساعدات الإنسانية بشكل فوري وآمن ودون عوائق على نطاق واسع مباشرة إلى السكان المدنيين الفلسطينيين.

ومع ذلك، من المهم التأكيد على أن صدور أمر المحكمة، رغم إلزاميته، لا يعني نهاية المطاف وأن إسرائيل سوف تضعه موضع التنفيذ، إذ لم توقف مجازرها بعد صدوره. كما يشير رد الفعل الأمريكي إلى استمرار واشنطن في دعمها العسكري لإسرائيل بجانب دعمها السياسي الهائل. ومن غير المرجح أن تترك واشنطن أي فرصة لمجلس الأمن، الذي دعا لجلسة طارئة في 31 يناير الماضي، لفرض التدابير التي أمرت بها المحكمة. وستظل الولايات المتحدة على دبلوماسيتها المكوكية، فقط لإعطاء مزيد من الوقت لإسرائيل لارتكاب المزيد من المجازر وأعمال الإبادة. والأمل الآن في ضمير الرأي العام العالمي الذي فرض نفسه كلاعب رئيسي في هذه المأساة الأكثر دموية في التاريخ الحديث.

("الشروق") المصرية

يتم التصفح الآن