وجهات نظر

وسائل الوحدة العربية «الافتراضية»

في اللحظة التي ظنّ أعداء العروبة أنها ماتت وتم تشييعها إلى مثواها الأخير، أعادت وسائل التواصل الاجتماعي خلال العقدين الأخيرين التأكيد على جماهيرية الفكرة العربية الواسعة.

وسائل الوحدة العربية «الافتراضية»

عانت المنطقة العربية من التقسيمات السياسية التي خلقت فواصل لتُباعد بين شعوبها، بينما بدأت أنظمة ما بعد التحرّر من الاستعمار التفكير في وسائل مختلفة لتعزيز حكمها عبر التأكيد على فكرة الوطنية للإقليم المستقل، وهو ما قاد مع معطيات أخرى إلى متوالية من الصراعات العربية/ العربية.

الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية خلقت حالة من الشعور الوجداني بأنّ كل العرب في الهمّ سواء

وإذا كانت الأنظمة العربية لم تنجح في صياغة مشروع حقيقي للوحدة، فذلك لأنها استبعدت الشعوب من المعادلة باستمرار، لكنّ الشعوب بقيادة الشباب عادت إلى الواجهة في عصر وسائل التواصل الاجتماعي، التي مكّنت الأفراد من التعبير بمشاعر صادقة عن نفسها وأحلامها العروبية، بل والتفاعل مع أحداث عربية مختلفة بصورة أعادت فكرة العروبة إلى المركز، وهو أمر أثار استياء أبناء تيارات غير عروبية.

نتحدث هنا عن مرحلة جديدة من التواصل بين أبناء العالم العربي، أساسًا باستخدام اللغة المشتركة التي خلقت عامل ربط متينًا، فضلًا عن أنّ الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والظروف المعيشية التي تواجهها الشعوب العربية، خلقت حالة من الشعور الوجداني بأنّ كل العرب في الهمّ سواء.

هل ينسى أحد نصائح الشعوب لبعضها البعض في فترة الربيع العربي عبر الوسائط الافتراضية؟

فالثقافة العربية التي أثبتت نفسها في عصر العوالم الافتراضية، أصبحت عابرة للحدود وصلة وصل قوية بين العرب، وهنا نتحدث عن الثقافة بمختلف تجلّياتها، سواء الفكرية أو الأدبية أو الفنية أو الدينية، فهناك مشترك موجود ودوائر يتحاور العرب داخلها من المنطلقات نفسها تقريبًا.

كما لا نغفل الثقافة السياسية؛ هل ينسى أحد نصائح الشعوب لبعضها البعض في فترة الربيع العربي عبر الوسائط الافتراضية؟

إذن، قدّمت وسائل التواصل الاجتماعي نماذج شديدة الحيوية والذكاء في التعبير عن شعور الوحدة العربية المكثّف بين المواطنين العرب ممن لا يمكن حصرهم في طبقة بعينها، فمثلًا خلال مباريات كأس العالم لكرة القدم في قطر 2022، توحّد العرب خلف منتخب المغرب ورحلة صعوده إلى الأدوار النهائية، كانت المشاعر فيّاضة وجيّاشة. الكثير من العرب أدركوا حقيقة مشاعرهم العروبية أو جرّبوها لأول مرة.

ظاهرة التوحد الوجداني على مواقع التواصل الاجتماعي التي تراكمت خلال العقدين الماضيين وصلت إلى لحظة التفجّر، وتجلّت في حالة الفرح التي اكتسحت الشوارع العربية من المحيط إلى الخليج بعد كل انتصار للمنتخب المغربي.. لماذا تحوّل هذا الفوز إلى «التريند» الأول في الدول العربية؟ هل كان يمكن لنا أن نشعر بهذه الحالة إذا لم تتواجد وسائل التواصل؟ ألم يكن البعض سيشكّك في هذه الحالة إذا وقعت في عصر ما قبل التواصل الافتراضي؟

الوحدة العربية الافتراضية أكثر قوة بلا افتعال، أكثر ديمومة بلا مخاوف انتكسات

بل أنّ هذه الحالة التي ظهرت في تشجيع المنتخبات العربية خلال كأس العالم، أصابت أصحاب الدعوات الجهوية والإقليمية بالصدمة من تلقائية التعبير عن العروبة بين أجيال شابة عكستها وسائل التواصل بكل سلاسة وبلا أي ادعاء، وبطبيعة الحال لا يقف خلفها حزب أو منظمة. لأنها مشاعر صادقة تنبع من شعور حقيقي بوجود الوحدة.

أهمية هذه الوحدة العربية الافتراضية أنها ثقافية مبنية على تقارب حقيقي، لكنها لا ترفع الشعارات الرنّانة، تكتفي بالممارسة على الأرض، لذا هي أكثر قوة وبلا افتعال، أكثر ديمومة بلا مخاوف انتكسات، فالفضاء الافتراضي خلق تجربة تقوم على وحدة عربية لا تعترف بعائق الحدود، والمفارقة هنا أنه إذا كانت حدود الدول هي حدود افتراضية لا وجود لها في الحقيقة، فإنّ الردّ عليها وتجاوزها جاء فعليًا من العوالم الافتراضية التي كرّست شعورًا بالوحدة.

لم يتوقع أحد أن تمارس مواقع التواصل هذا الدور في إحياء الشعور بالعروبة

أصبحت المواقف اليومية في أي بلد عربي محلّ نقاش على مواقع التواصل العربية، ويبدو أنه لم يتوقع أحد أن تمارس مواقع التواصل هذا الدور في إحياء الشعور بالعروبة؛ بصورة خلقت الفكرة من جديد، وكوّنت لها قاعدة صلبة في المجتمع تستحق التركيز والبناء عليها لمستقبل مشترك؛ قاعدة تؤمن بالشعوب وقدرتها على صناعة المنجزات لأنها صانعة المعجزات، ولا تنكر أنّ الطريق لا تزال طويلة. 

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن