هي حرب لا يصغي إليها المجتمع السياسي الدولي بما يكفي من موقف إنساني أو بما تستحق من اهتمام، عدى المواقف الشعبية، ربما بسبب إكراهات داخلية في الدول الغربية، بل وأخذ بعضها يسنّ التشريعات ضد "حماس" بوصفها "منظمة إرهابية".
السؤال لماذا "7 أكتوبر"، ومن هُم ضحاياه، ومن المستفيد؟ كما نعرف جميعًا فإنه في أي حرب أول الضحايا هي الحقية، وحتى الآن لم نتبين الحقية وراء الدوافع لـ"7 أكتوبر"، ولكن يمكن أن نجتهد، بما يتوفر من معلومات.
واضح أنه إذا كان ثمة استراتيجية في بدء المعركة، فلا توجد استراتيجية خروج.
استراتيجية إيران ترتكز على قاعدة "محاربة العدو دون الاشتباك معه"
ما هي حسابات "حماس"؟ يمكن للمتابع أن يفترض أنّ الحدث في "7 أكتوبر" مبني على عدد من الافتراضات من قبل "حماس":
- إحداث هزّة كبرى في المجتمع الإسرائيلي (وهذا حصل).
- اعتقاد "حماس" بما تردّد كثيرًا في أدبيات "المقاومة" عن "وحدة الساحات"! ولم يكن ذلك الافتراض صحيحًا، كل ما تم تفعيله في الجبهة الجنوبية اللبنانية هو ضمن ما عُرف بـ"قواعد الاشتباك".
- استغلال الأسرى الإسرائيليين، ولكن تبيّن أن هذا الملف اعتبرته الحكومة الإسرائيلية ثانويًا، في حين توقّعت "حماس" أن يكون "حاسمًا"!.
- إثارة سخط عام في الضفة الغربية ضد الاحتلال (حدث جزئيًا، ولكن لم يكن على مستوى أمل "حماس").
- خدمة الاستراتيجية الإيرانية (الحليف الإيراني تبرّأ من الموضوع في الأيام الأولى).
- قطع الطريق على اتفاق سعودي - أمريكي إسرائيلي، كان يمكن من خلاله بحث الخروج بدولة فلسطينية، على الخطوط العريضة لاتفاقية "أوسلو" (هذا العنصر علينا فحصُه عن قُرب!).
- قطع الطريق على الفكرة الاستراتيجية، وهي المحور اللوجستي الذي اتُفق عليه في لقاء مجموعة العشرين، سبتمبر/ أيلول 2023 ( الهند – الإمارات - إسرائيل - أوروبا) بمباركة من الولايات المتحدة.
أما عن فكرة تحقيق استراتيجية إيران، فهي ترتكز على قاعدة "محاربة العدو دون الاشتباك معه"! (سون تزو)، ومنها الاشتباك المحدود في جنوب لبنان، إثارة المناصرين في العراق ضد الوجود الأمريكي، ومحاولة خنق التجارة العالمية في باب المندب!
الشواهد على ما تقدّم كثيرة، منها:
- تصريح إسماعيل هنية لقناة "الجزيرة" (موجود على "يوتيوب") حين قال: "نحارب إسرائيل لإلهائها عن إيران" (يمكن اعتبار ذلك التصريح للمتشككين "زلة لسان"!).
- تصريح المتحدث باسم "الحرس الثوري" رمضان شريف في 27 ديسمبر/كانون الأول قائلًا: "عملية "طوفان الأقصى" أتت ردًا على مقتل قاسم سليماني" (تم نفي ذلك التصريح لاحقًا بسبب الاحراج، ويمكن اعتباره "زلة لسان"!).
إلا أنّ ما كتبته الصحافة وما أذيع في المحطات التلفزيونية الرسمية الإيرانية هو الذي يُعتد به، ومنه:
- كتبت صحيفة "جوان" التابعة للحرس الإيراني في 8 أكتوبر (بعد يوم واحد فقط من بدء العمليات الحربية في غزّة) تقول: "إنّ تزامن هذه العملية مع كلام المرشد خامنئي الواضح في 3 أكتوبر هو مؤشر واضح على علم المرشد بالغزو!! (فقد قال المرشد إنّ "الحكومات التي تتخذ من مغامرة التطبيع مع الكيان الصهيوني نموذجًا لها ستخسر، والخسارة في انتظارها، وكما يقول الأوروبيون إنهم يراهنون على الحصان الخاسر")!.
- يقول عزت ضرغامي، وزير التراث والصناعات اليدوية في الجمهورية الإسلامية: "ذهبتُ إلى المنطقة (غزّة) بصفتي المسؤول عن إنتاج الصواريخ... وهذه هي الأنفاق نفسها التي يقاتلون فيها اليوم، قضيتُ بعض الوقت داخل هذه الأنفاق... حيث كنت أذهب لأعطيهم دورة تدريبية حول كيفية استخدام الصواريخ، لقد كانت واحدة من أنجح الدورات (تلفزيون "أفق" الحكومي الإيراني في 24 نوفمبر/تشرين الثاني 2023).
- يقول العميد قاسم قرشي (نائب قائد منظمة "الباسيج" التابعة للحرس للثوري الإيراني)، في كلمة له أمام قوات "الباسيج": "حزب الله في لبنان وحماس والجهاد الإسلامي في غزّة واليمنيون والرجال السوريون الاحرار يسترشدون بأفكاركم وتدريباتكم وتعليماتكم وتوجيهات القائد..." (تلفزيون "قم" الحكومي في 24 نوفمبر/تشرين الثاني 2023).
- العميد محمد تقى اصانلو (أحد قادة الحرس الثوري) يقول: "اليوم خنادقنا تبعد ألفي كلم من حدودنا، وهم يقاتلون في اليمن، وقد أخذ المحاربون الأفغان والباكستانيون والعراقيون والسوريون يقاتلون في اليمن ولبنان وسوريا وفلسطين، هذه الحرب التي بدأناها لا تنتهي ستستمر وتتطوّر! (قناة "إشراق" التابعة للنظام في 24 نوفمبر/تشرين الثاني 2023).
- وزير خارجية إيران الحالي حسين عبد اللهيان يقول في مقابلة تلفزيونية: "إذا لم ندافع عن غزّة اليوم، فسنضطر غدًا إلى التعامل مع القنابل الفسفورية في مدننا" (موقع "ديدبان" الإيراني في 22 أكتوبر/تشرين الأول 2023).
حاول العرب 18 مرّة في غضون هذا القرن أن يجمعوا "الرأسين" دون نتيجة
ما تقدّم هو غيض من فيض من تصريحات قادمة من مصادر إيرانية وقد نُوّه عن قائلها ومكانها وتاريخها، وبعضها كان متعجّلًا، قبل أن يأخذ المسار الرسمي الإيراني تراجعًا من خلال إعلان (النأي بالنفس) كما هو معلوم.
يبقى السؤال على المقلب الآخر، هل كانت إسرائيل بما تمتلك من قوة استخبارية غافلة عن أعمال "حماس"؟.
هناك استراتيجية إسرائيلية تقول إنّ "حماس" ضرورة لتعميق الشقاق الفلسطيني بدليل:
- النتائج السلبية الممكن أن تأتي من "حماس"، توازيها أهمية وجود الخلاف الفلسطيني-الفلسطيني الذي يشكّل الكفة الرابحة لإسرائيل.
- لقد حاول العرب 18 مرّة في غضون هذا القرن أن يجمعوا "الرأسين" دون نتيجة.. تُوقّع اتفاقات (آخرها في الجزائر) ويتم التخلي عنها في الأيام القليلة اللاحقة!
- قدّمت إسرائيل لحكم "حماس" في غزّة الكثير من الخدمات، اشترت بعضًا من منتجاتها، شغّلت عددًا من عمّالها في الأعمال الإسرائيلية، قدّمت الطاقة لها وأيضًا سمحت بالعون المالي القادم لها من دول عربية. وكان الفكر السائد أنّ وزن تلك التسهيلات وترك "حماس" تحكم يشكّل إغراءً أكبر من الإغراء الإيراني، وهنا كان مقتل الاستراتيجية الإسرائيلية.
إذا كان ثمة درس مهم يمكن استخلاصه من الأحداث الأخيرة، فهو أنّ الوحدة الفلسطينية ليست ترفًا بل ضرورة ومصلحة، ليس بعيدًا عن المساعدة العربية والدولية إن توحّدت الأهداف وتقاربت الوسائل، ولكن بالاعتماد على النفس وإعطاء الآخر مساحة، فمن هو قادر على المساعدة، الدبلوماسية والسياسية، يمكنه أن يفعل، ولا لوم على الفلسطينيين من التعاون مع من يرونه قادرًا على المساعدة لمشروعهم التحرّري دون أن يرتهنوا لمشروعه، ويجب أن لا يحتكروا توزيع (صكوك الوطنية والخيانة) على الآخرين، ذلك لم يُجدِ في السابق ولم يجدِ اليوم ولن يجدي في الغد، وكلما وصلوا إلى هذا القناعة كلما كان ذلك أكبر مساعدة للقضية، وقد تمت دعوة الدول الإسلامية بمبادرة سعودية لأخذ موقف فعّال سياسيًا، وهي إضافة إلى حراك إقليمي ودولي يتوجب فهمه وعدم المزايدة عليه، ويُبنى الأمر على قاعدة: القضية لها عبء دولي، فإن تُركت الأمور دوليًا كما هي من استمرار الصراع فإنّ ذلك بالتأكيد سوف يؤثر على الأمن الدولي، ولن تكون أية دولة في مأمن من النتائج الكارثية لاستمرار الصراع، والإقليم لن يهدأ والعالم سيبقى قلقًا في كل لحظة وساعة يتوقع الشر.
تدخّل "الحوثي" في التجارة العالمية يرفع تكلفة البضائع والخدمات ويقلل التعاطف مع القضية الفلسطينية
أما الخلاصة فهي؛
- افتقدت الحركة الفلسطينية (آلية حضارية لحل المنازعات) من ثنائية (الحسيني/ النشاشيبي) إلى (فتح/حماس).
- استطاعت إيران أن تستميل عددًا وازنًا من الرأي العام العربي ضد من تسميه "الشيطان الأكبر"، لكنها حققت أهدافًا سلبية فقد كانت تطمح إلى أن يتم اللجوء إليها للتدخل في الحل! طبعًا بثمن سياسي تحدده.
- بتدخل "الحوثي" في التجارة العالمية، سوف يرفع تكلفة البضائع والخدمات لكثير من الدول، ومن ثم تعود من جديد إلى التضخم، مما يقلل التعاطف مع القضية الفلسطينية.
- سوف يزداد الهجوم على دول الخليج إعلاميًا واتهامها بالتقصير، ووضع اللوم باطلًا عليها، وقد بدأت ماكينات (الإسلام الحركي) بذلك، رغم مواقف الدول والشعوب المؤيدة للحق الفلسطيني!.
لقراءة: الجزء الأول
لقراءة: الجزء الثاني