في لحظة الضياع والأمراض المجتمعية الكثيرة التي تعيشها الآن مجتمعات العالم، وعلى الأخص مجتمعات القيادة الحضارية التاريخية الكلاسيكية في دول الغرب الأوروبية والأنجلوسكسونية، بدأت تظهر إشكالية ثقافية معقدة، هي إشكالية التثقيف السياسي لأجيال المستقبل. وتكثر الكتابات والمناقشات هناك حول البدائل الثقافية السياسية لأجيالهم الشابة، بعد أن تراجعت الإيديولوجيات السياسية السابقة، والتي انتمت في أغلبها في الماضي، إلى أحد البديلين: تيار اليسار، أو تيار اليمين.
لقد كانت في الماضي تعريفات ومبادئ وأساليب عمل التيارين ناضجة، وواضحة، ومتفقاً عليها. وكانت الحكومات والأحزاب والحياة السياسية، في أغلبيتها الساحقة، تصنف بخصائص أحد التيارين.
أما اليوم، وبعد أن ارتفع صوت شعار التعددية الثقافية في كل مكان، ما عاد الحديث يقتصر على الانتماء إلى أحد التيارين فقط، وإنما أيضاً، وبنفس القوة، الانتماء إلى ثقافات سياسية فرعية، من مثل ثقافة الخضر الذين يهتمون أساساً بالبيئة، أو الثقافة النسوية الذين تهمهم في الدرجة الأولى قضايا المرأة إلخ.. من بين عشرات الثقافات الفرعية. وهذه الثقافات لا ترضى أن تكون جزءاً منضوياً تحت لواء أحد التيارين الكبيرين، وإنما تريد أن تكون لها الأولوية والاستقلالية والخصوصية الذاتية.
هذا المنحى الجديد في الثقافة السياسية، واستقلاله على الأخص عن الأحزاب الكلاسيكية العقائدية الشاملة، ستكون له انعكاسات سلبية كثيرة على الممارسات المجتمعية السياسية مستقبلاً، وستكون له أيضاً آثار سلبية في التكوين الثقافي العام للفرد. ولعل بدايات تلك الانتكاسات تشاهد وتسمع الآن في الوسائل الإعلامية الكثيرة. لقد ذهبت تلك الأيام الذي كان الإعلام يهتم بالجانب الفكري والقيمي في كل موضوع مجتمعي يطرحه ويناقشه سواء مع مفكر، أو مسؤول، أو فرد عادي، إذ تتركز النقاشات في أيامنا على الأحداث العابرة وأبطالها، من دون الالتفات للجوانب الفكرية والقيمية الفلسفية التي تقف وراء تلك الأحداث.
ويزداد الوضع خطورة بعد أن أصبحت لوسائل التواصل الاجتماعي مكانة شبه مقدّسة في حياة الشابات والشباب في مختلف أنحاء العالم، وبعد أن نجحت تلك الوسائل في تهميش الوسائل الإعلامية الكلاسيكية.
وبالطبع، فإن كل ما ذكرناه سيكون ظاهرة عولمية في عالم يتجه إلى أن يكون شبه قرية واحدة، وأن يكون متماثلاً في سياساته، الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وهنا بيت القصيد، إذ بالطبع ستكون له آثاره السلبية على شباب وشابات الوطن العربي، هذا الوطن الذي ضعفت إرادته الحضارية الذاتية، والذي أصبح مستباحاً من قبل قوى كثيرة تساهم في ذلك الضعف من أجل أطماعها، وعداواتها، وهلوساتها التي لا تقف عند حد.
في هذا الوطن تميزت مسيرة التثقيف السياسية في الماضي للشابات والشباب، بأنها كانت تبدأ في المدرسة الثانوية، أو الجامعة التي كانت تعجّ وتموج بنشاطات، ومواقف، ومناقشات سياسية لا تهدأ، لتنتقل بعد التخرج إلى ساحات الأحزاب السياسية، حيث يتعمق التثقيف السياسي بشكل أكبر ويرتبط بأفعال نضالية تقوّيه وتحسّنه.
لكن في أيامنا التي نعيش، وبسبب إشكالات الأجواء الثقافية السياسية التي وصفنا تناميها في العالم كله، مؤخراً، ما عادت المدرسة الثانوية، ولا الجامعة، ولا الأحزاب، قادرة على أن تلعب أدوارها السابقة في تثقيف الشباب والشابات، بثقافة فكرية سياسية، عميقة، ومتوازنة، وشاملة، ومرتبطة بالتزامات عضوية نحو مجتمعاتها، خصوصاً بعد أن أصبحت محل مراقبة مشددة من قبل قوى أمنية وسياسية متعددة، تحاسبها على كل تعبير، وعلى كل موقف يختلف مع نظام الحكم.
من هنا أهمية ما نود طرحه من أسئلة وإجابات حول هذا الموضوع برمّته بالنسبة إلى شباب وشابات الأمة، وبالنسبة للمسؤوليات التي يجب أن تضطلع بها الأحزاب والمؤسسات التعليمية العالية على الأخص، ووسائل الإعلام.
فإذا كان الغرب المتقدم القوي الواثق من قدراته، أصبح يفتش عن حلول للضعف الثقافي السياسي الالتزامي الذي أصاب شبابه، فالأحرى بنا في هذا الوطن أن نقوم بأكثر من ذلك. هذا إذا كنا نريد للشابات والشباب أن يلعبوا أدواراً نضالية وإصلاحية في مجتمعاتهم، وأن يخرجوا من التّيه الذي يعيشون فيه.
ومن البداية، نحذر من أن تكون محاولتنا، سواء من قبل مفكرينا ومثقفينا، أو من قبل قيادات حياتنا السياسية العربية، محاولة تقليد لما يفعله الغرب بالذات. ذلك أن أولوياتنا، وطبيعة هويتنا العروبية التاريخية، واندماج الثقافة الإسلامية في كل مرافق الحياة العربية، تحتم أن تكون المحاولة العربية إبداعية ذاتية مستقلة، لها أولوياتها ومنهجيتها، وخصوصية قواها التي ستقوم بتلك المحاولة.
ومن البداية نأمل أن يكون موضوعاً يناقشه، الجميع مهما كانت خلفياتهم، الفلسفية والفكرية والقيمية. إن الخروج من مستجدات المأزق الثقافي السياسي العربي الحالي سيكون في مصلحة الجميع. وكل ما يرجوه الإنسان هو ألا يقف أحد، أو تقف أية جهة في وجه المناقشات الموضوعية الصادقة باسم أي شعار تثبيطي مزيف أصبح يملأ الأرض العربية حالياً، مع الأسف.
("الخليج") الإماراتية