تقول الولايات المتحدة إنها تسعى إلى منع توسع الحرب، لكنها في الواقع تدفع نحو توسع الحرب، بل دخلت طرفا فاعلا في القتال إلى جانب إسرائيل من الأيام الأولى، وأرسلت البوارج مع جسر جوي لدعم إسرائيل، وشارك جنرلاتها في غرف العمليات، لما وصفته بنقل الخبرات التي اكتسبتها خلال حروبها في العراق وأفغانستان وسوريا، وتخوض القوات الأمريكية قتالا مع اليمن والعراق وسوريا، وإن كانت تتجنب المواجهة المباشرة مع إيران، والاكتفاء بتوجيه الاتهامات لها بالمسؤولية عن تسليح وتدريب من تصفهم بالأذرع الإيرانية في المنطقة.
لكن فشلت أمريكا في إيقاف الحظر الذي يفرضه الحوثيون على الملاحة من وإلى إسرائيل عبر البحر الأحمر، بل فاقمت الأزمة عندما وجهت ضربات إلى عدة مدن يمنية، وارتدت على شركات الملاحة، التي تخوفت من اندلاع القتال، وجاء الفشل الأمريكي أمام قوة يمنية قليلة التسليح ليزيد من أزمة الثقة في القدرات العسكرية الأمريكية، ويضاف إلى فشلها في العراق وأفغانستان، وهي الثروة التي تقترب موازنتها من ترليون دولار سنويا، متفوقة على مجموع إنفاق الصين وروسيا وبريطانيا وفرنسا مجتمعة، والخشية تتزايد من أن تسعى الولايات المتحدة إلى استعادة هيبتها العسكرية، أو السير خلف أهداف نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي المنفلت، وتنزلق إلى حرب لن تكون في صالحها، وتستنزف قدراتها المتراجعة، وتهدي الصين وروسيا مفاتيح قيادة نظام عالمي جديد على طبق من ذهب، دون معارك عسكرية أو اقتصادية.
فالمرجح أن نتنياهو لن ينصاع بسهولة لأي نتائج مفاوضات لا تلبي رغبته في تتويجه بنصر صريح، وهو غاية ما زالت بعيدة المنال، فالجيش الإسرئيلي يبدو عليه الإنهاك النفسي، ورفض بعض مقاتليه أوامر النزول للقتال علامة سيئة لنتنياهو وقادة الجيش الإسرائيلي، الذي لم يحقق شيئا يذكر أمام مقاتلي غزة المحاصرة تماما، ولا يصلها حتى الغذاء والماء، فكيف له أن يخوض معركة مفتوحة في الشمال مع "حزب الله" اللبناني، الأقوى تسليحا وعددا وعتادا وخطوط إمداد مفتوحة؟ وتكتفي بترديد التهديدات باجتياح لبنان، فماذا يمنعها والقوات اللبنانية تضرب معاقل ومراكز قيادة الجيش الإسرائيلي وتدك معسكراته؟ لا شيء إلا الخشية من حرب على جبهتين، وأن تصبح الخسائر أضعاف خسائره في غزة، والنازحين بمئات الألوف، وتصاب إسرائيل بالشلل.
لا يهتم نتنياهو بكل تلك الاعتبارات، فإما أن يبقى أو يشعل المنطقة، ويهدم المعبد على رؤوس الجميع. فهل إدارة البيت الأبيض قادرة على كبح نتنياهو؟ الرئيس الأمريكي بايدن في حيرة، فهو لا يمكن إلا أن يلبي مطالب إسرائيل مهما كانت قيادتها، وعليه أن يمضي قسرا خلفها، وهو القائل إنه صهيوني ويهودي، وإذا لم تكن إسرئيل موجودة لأوجدناها.
ولا شك في الروابط المتينة بين إسرائيل والولايات المتحدة، التي تصل إلى كونهما كيانا واحدا، لكن إدارة إسرائيل وسيطرة اليمين الديني المدجج بالأساطير والنزعة العنصرية سيضع الولايات المتحدة في زاوية ضيقة. وإذا استمرت في إرضاء هذا اليمين الديني المنفلت إلى أبعد حدود، والمستعد لارتكاب أبشع المجازر في رفح، مهما كانت العقبات، فإن بايدن سيفقد كل فرصة في الانتخابات، فلا الصوت العربي والمسلم ولا الإفريقي يمكن أن يقف إلى جانبه، بل إن الرأي العام العالمي وحتى الأمريكي سيأنف ويتبرأ من جرائم إسرائيل، وتفقد الولايات المتحدة أصدقاء يقلون كل يوم، وسمعة سيئة لا يمكن محوها، وستظل تلاحق الولايات المتحدة وليس بايدن وحده، فالهزيمة الأخلاقية تحققت، ولا يمكن التقليل من شأن الهزائم الأخلاقية، فتأثيرها قد يتجاوز الأزمات الاقتصادية وخسارة معركة عسكرية، وإذا ما اقترنت بانقسامات داخلية، وتراجع في الاقتصاد، فإنها تدخل أزمة هبوط حاد لا رجعة فيه.
إن الطريق نحو اتساع الحرب يزداد اتساعا، بينما المفاوضات محاصرة بين مطالب نتنياهو التي لا يمكن تحقيقها، والحقوق الفلسطينية التي لا يمكن إنكارها، أضيف إليها الحق في الحياة الذي تنكره قيادة إسرائيل، وتقتل المرضى والجرحى في المستشفيات، وتمنع الغذاء والدواء وكل متطلبات البقاء، ولا تكتفي بالمجازر اليومية للأطفال والنساء، وتندفع إلى توسيعها، بينما الوقت، والفرصة تكاد تتبخر في الوصول إلى حل يفضي إلى وقف القتل الجماعي، وإذا ما نفدت الفرصة فلن يكون هناك سوى توسع الحرب، الذي يبدو أنه مسار إجباري لا مفر منه، حتى إذا كانت كل الأطراف لا تريدها.
("الأهرام") المصرية