وليس لهذا علاقة بمسألة شرعية "حماس" وإصرار إسرائيل على اجتثاثها كما تتوهم، ولكن لأن "حماس" وحدها لا يمكن أن تكون قادرة بمفردها بعد كل ما فعلته إسرائيل بغزّة من قتل وتدمير على تحمّل أعباء مرحلة ما بعد العدوان، حتى ولو حققت انتصارًا كاملًا على إسرائيل، وإنما لا بد من بنية سياسية جديدة في غزّة تعكس وحدة وطنية فلسطينية حقيقية تشارك فيها الفصائل الفلسطينية كافة، كلٌّ بحسب شعبيته.
المقصود أميركيًا بمصطلح "إعادة إحياء" السلطة الفلسطينية هو تفريغها من أي مضمون وطني
وقد كان مطلب الوحدة الوطنية الفلسطينية دائمًا مطلبًا ضروريًا لمواجهة الاحتلال الإسرائيلي وجرائمه، لكنه أصبح الآن مسألة حياة أو موت، فإما أن يتحلى الجميع بالرؤية الوطنية المخلصة بعيدًا عن أي مصالح ذاتية، وإلا يكون هذا الجيل من فصائل المقاومة قد حسم أن النضال الفلسطيني لن ينتصر على يديه، وأنّ على هدف استرداد حقوق الشعب الفلسطيني أن ينتظر جيلًا قادمًا أكثر وعيًا وإدراكًا لمتطلبات التحرير، فالحاجة لتحقيق الوحدة الوطنية إذن "فرض عين" لا يمكن إسقاطه في هذه الظروف.
غير أنه يجب التفرقة في هذا الصدد بين المساعي المختلفة لتحقيق الوحدة الوطنية الفلسطينية، فهناك مساعٍ خارجية وأخرى داخلية مع الوعي بالتفاعل بين ما هو خارجي وما هو داخلي، وليست كل المساعي إيجابية بطبيعة الحال، فعلى المستوى الخارجي تدعو الإدارة الأمريكية على سبيل المثال إلى "إعادة إحياء" السلطة الفلسطينية "revitalization"، وليس لديّ ذرة شك في أنّ المقصود بهذا المصطلح هو تفريغها من أي مضمون وطني حتى يمكن ضمان أن تكون غطاء للسيطرة الإسرائيلية على الأراضي الفلسطينية في غزّة والضفة بحيث يكون المصطلح الأدق هو "devitalization"، أي التصفية وليس التحديث.
كذلك تبدي السياسة الروسية دائمًا اهتمامًا بالوحدة الوطنية الفلسطينية، وأثناء كتابة هذه السطور كانت موسكو تشهد اجتماعات مغلقة بين الفصائل الفلسطينية الـ١٤، ولا شك في اختلاف هدف السياسة الروسية عن الأمريكية، على الأقل بحكم الحرص الروسي على تطويق النفوذ الأمريكي قدر الإمكان في سياق العملية التاريخية التي تجري حاليًا لترسيخ التعددية في قيادة النظام الدولي، ولذلك فسوف تكون الأفكار الروسية بالتأكيد قريبة من دعم هدف الوحدة الوطنية الفلسطينية، لأنه في ظل هذه الوحدة وحدها يمكن تكوين جبهة متماسكة لمواجهة المخططات الصهيوأمريكية.
أما على صعيد الجبهة الداخلية الفلسطينية فقد قدّم رئيس الوزراء الفلسطيني استقالة حكومته تمهيدًا لتكوين ما يُسَمى بحكومة كفاءات تكنوقراطية تكرر الحديث عنها كثيرًا في سياق المواجهة الحالية كآلية للخروج من مأزق سيطرة "حماس" على حكم غزّة، ومن المؤكد أنّ مشاورات تشكيل هذه الحكومة ستخضع لضغوط خارجية وداخلية هائلة، ويجب أن يكون واضحًا في مواجهة هذه الضغوط أنّ هذه الحكومة لا يمكن أن تكون منزوعة السياسة تمامًا، بمعنى أنها لا يمكن إلا أن تُعبّر عن الواقع الفلسطيني وإن لم تتضمن بالضرورة ممثلين صريحين عن الفصائل المختلفة، غير أنها لا يمكن أن تتجاهل اتجاهات الرأي العام الفلسطيني وإلا فسوف يكون مصيرها الفشل، ولن تكون سوى حلقة ضعيفة أخرى في سلسلة المحاولات المبتسرة للخروج من المأزق السياسي الفلسطيني الحالي.
وعلى الذين ينادون بإبعاد "حماس" ويتوهمون إمكانية ذلك أن يدركوا أنّ استقرار الساحة الفلسطينية لا يمكن أن يتحقق ما لم تكن الصيغ السياسية الفلسطينية من الآن فصاعدًا تعبيرًا أمينًا عن الواقع السياسي الفلسطيني وتوجهات الرأي العام فيه، وإذا كان إجراء انتخابات شعبية نزيهة يبدو في الأمد القريب مستحيلًا في غزّة فإنّ الكل يعرف أنّ مؤشرات الرأي العام الفلسطيني واضحة، ويجب أن لا يكون للرغبات الإسرائيلية في السيطرة شبه المطلقة على أراضي الدولة الفلسطينية المأمولة أي وزن في بناء الصيغ الجديدة للسياسة والحكم فيها.
الشعب الفلسطيني لا يمكن أن يغفر لمن يُهدر كل تضحياته الهائلة بسبب رؤى ضيّقة أو مصالح ذاتية
وليكن معلومًا أنه ما لم تأتِ هذه الصيغ انعكاسًا لإرادة أغلبية الشعب الفلسطيني فإنّ الفشل الحتمي سيكون مآلها، وليكن معلومًا أيضًا أنه يجب الاستعداد من الآن لإجراء الانتخابات لرسم الخريطة الفلسطينية الجديدة في أسرع وقت ممكن بعيدًا عن أي حجج فارغة تتذرع باعتبارات يعلم الجميع أنها مجرد ذرائع للمماطلة في إجراء الانتخابات.
وأخيرًا فإنّ الفصائل الفلسطينية كافة تتحمّل المسؤولية الأولى عن نجاح عملية ترتيب البيت الفلسطيني على نحو يخلق الأرضية اللازمة لاستكمال مسيرة التحرّر الفلسطيني التي ما زال أمامها العديد من المهام الشاقة التي تتطلب نضالًا أشد من أي وقت مضى، وليُسقط الجميع مصالحهم الفصائلية الضيّقة لحساب المصلحة الوطنية العليا، وإلا فإنّ الشعب الفلسطيني لا يمكن أن يغفر لمن يُهدر كل تضحياته الهائلة عبر العقود بسبب رؤى ضيّقة أو مصالح ذاتية على حساب المصلحة الفلسطينية العليا.
(خاص "عروبة 22")